الإقتصاد والصحة

د.علي المبروك ابوقرين
تاريخيًا أهتموا العرب والمسلمين بالصحة وتعليم الأطباء وشيدوا المستشفيات ودور للمرضى ، وخصصوا لها الأموال وأوقفوا أخصب وأغلى الأراضي للإنفاق على المستشفيات ، وتوفير الأدوية والأخلاط والأذهان من كل أصقاع الأرض ، وأستعانوا بأمهر الأطباء والمعاونين والطباخين والمساعدين ، ودفعوا لهم أعلى المداخيل ، وشيدوا في الاندلس لوحدها خمسون مستشفى بعمارة مذهلة وحدائق غناء وقنوات وجداول للماء ، وأسرة مريحة مكسوة بحرائر دمشقية ، ومزودة بقاعات للدروس وأخرى للترفيه بفرق موسيقية ، ويقدم للمرضى والعاملين أطيب الطعام ، ويُدفع للمريض أجرة فترة النقاهة لكي لا ينتكس ، وسَيروا فرق طبية حمولة خمسون جمل لكل منها ، لتجول بين المدن وتقدم الخدمات الطبية لكل الناس بإنصاف ، وبذلك حافظوا على صحة الناس وزادت انتاجيتهم ، وأنهار كل ذلك مع العصر العثماني وزاد بعد الاستعمار ..
وفي الماضي القريب الذي شهدنا بعضه ، عانت البلاد والناس من ضنك الحياة وانعدام الخدمات الصحية ، مما فقدت معظم العائلات الليبية جزء كبير من أبنائها وبناتها وعائلها نتيجة الأمراض وعدم توفر الخدمات الطبية ، إلا القليل من ما قام به المستعمر الايطالي لرعاياه ، حتى وإن استفاد منه العدد البسيط جدا من العمالة الليبية التي كان يعتمد عليها المستعمر في الأنشطة الاقتصادية ، ولأنها تقوم بكل شئ من زراعة وصناعة وخدمات في الموانئ والطرق والسكة الحديد وغيرها ، أو من خلال حملات التفتيش الصحي ومكافحة الأمراض التي كانت تقوم بها بعض الإرساليات الطبية الأجنبية عند أنتشار الاوبئة والأمراض المعدية ، ويدل على ذلك تدني المؤشرات الصحية حينها ، وأعتمد معظم السكان الليبين على الطرق التقليدية المتبعة والمتوارثة كالأحجبة والحجامة والكي والخرث والزار والأعشاب الطبية ، واستخدام بعض الحيوانات والزواحف البرية ، والكثير من الطرق والأساليب العلاجية الشائعة حينها ، ونظرا لخوف المستعمر على مصالحه واقتصاديات الجاليه مما أضطره لتدريب بعض الممرضين والمسعفين وسائقي سيارات الإسعاف لإدارة بعض المستوصفات المنتشرة في أماكن تواجد المستعمرات الزراعية الايطالية ، ومع قيام الدولة وأرتفاع الدخل القومي تم الإنفاق على البنية التحتية الصحية ، وبناء المستوصفات والمراكز الصحية والمستشفيات بكل درجاتها ومستوياتها الخدمية وفق التصنيف المعتمد من الدولة ، وتوفرت خدمات صحية متكاملة ومتاحة لكل الناس وبالمجان ، وشيئا فشيئا وعام بعد عام زادت السعات السريرية والقدرات الاستيعابية ، وزادت أعداد الأطباء والتمريض والفنيين الليبين ، وتطورت الخدمات مواكبة للعالم ، وزاد الإنخراط في مهنة الطب والتمريض والفنيين الصحيين حتى وصلت ليبيا لتحقيق مؤشرات صحية جيدة ، رغم الإنفاق الحكومي المتواضع الذي لم يزيد عن 3% من الدخل القومي في أحسن الأحوال ، في الوقت الذي لا يجب أن يقل عن 15% ، ولذلك البلاد في حاجة ماسة لمضاعفة السعات السريرية ، وإعادة تخطيط وتخربط الخدمات وفق الزيادة الديموغرافية والتوسع الجغرافي للمدن والقرى والتجمعات السكانية ، ويستلزم مضاعفة أعداد العاملين الصحيين ، وتطوير الخدمات الصحية بما يتماشى مع التطور التقني والتكنولوجي والعلمي والبيولوجي والإداري الذي يغطي كافة الاحتياجات الصحية ، وتحقق التغطية الصحية الشاملة بالجودة العالية وبالعدالة والإنصاف ، وتحقق المحددات الاجتماعية والصحية دون الحاجة لتحويل القطاع الصحي للأعمال التجارية الغير إنسانية ، وتحويل المرضى وذويهم لزبائن خاضعين لسياسات السوق والبيع والشراء والمتاجرة والاحتكار والاحتقار ، وأي اقتصاد في الدنيا إن كان رأسمالي أو اشتراكي أو مختلط أو خطي أو دائري ، وإن أرادوه إستهلاكي مدمر أو إنتاجي معمر فكل أنواع الاقتصاد تحتاج لمجتمعات صحية بدنيا وعقليا ونفسيا ، وليس لمجتمعات ينتشر فيها الأمراض ومتهالكة وغير قادرة على العمل والإنتاج ، مما ينعكس على كل القطاعات التنموية والاقتصادية وتغرق المجتمعات في مثلث الرعب ( الفقر والمرض والتخلف ) ،
إن الوضع الاقتصادي الليبي الذي يعتمد لقرابة 100% على النفط والغاز لا يجب أن ينجر لنظريات النظم الاقتصادية والصحية القائمة على تسليع المرض والخدمات الصحية والمنهارة معظمها والادلة في العالم كثيرة ، بل يجب إعادة النظر في الإنفاق على الصحة والتعليم الطبي بالصورة الصحيحة ، والفصل بين التمويل وتقديم الخدمات ، والحماية من الامراض بدل التورط في علاجها ، والإنفاق على القيمة والنتيجة وليس على الخدمات ، وإعادة النظر في ما هو متوفر حاليًا من بنية تحتية صحية وقوى عاملة صحية لا أرى إنها مناسبة لدولة وشعب ينشد الرخاء والازدهار والصحة والرفاه ، وإن الوضع الاقتصادي الاستهلاكي الحالي سوف يفاقم من الأوضاع الصحية للمجتمع ، وتتزايد الأمراض المزمنة كالسكري والضغط وأمراض القلب والكبد والكلى والجلطات القلبية والدماغية والأورام والأمراض المناعية ، ومع زيادة الثلوث البيئي يهدد بالتعرض للأمراض الوبائية الفتاكة التي سبق وأن تم التخلص منها كليًا ، وللاسف العالم مهدد بالجوائح والأمراض المعدية ، والمعروف أنه في أسواء الأحوال عند انفاق دولار واحد على الصحة يقابله مكاسب لاتقل عن خمسة اضعاف من الناحية المالية ناهيك عن الأهم وهو الحفاظ على صحة وحياة الناس ، وزيادة متوسط الأعمار بأكثر صحة وخالية من الأمراض ، وبالتأكيد لن يتحقق ذلك والأسواق تغرق بمناشط أقتصادية ضارة بالصحة والبيئة ، والإعلانات تحاصر الناس لأطعمة ومشروبات ومطهرات ومبيدات ومساحيق ضارة ، وسلوكيات اجتماعية سلبية تدمر صحة وحياة المجتمع ، وبالتوازي دعايات على مصحات وصيدليات وأدوية ومراكز صحية ما أنزل الله بها من سلطان مخالفة للمبادئ النبيلة التي تقوم عليها مهنة الطب والخدمات الصحية ، وأي اقتصاد هذا الذي يحرص على غنى حفنة في سبيل إفقار وإمراض الملايين الذين دمرت صحتهم السلع والمنتجات الغير صحية ، والأدوية والمستلزمات المغشوشة ، والخدمات الصحية القائمة على جني الأرباح من زيادة الطلب وليس الحاجة ، والقائمة على الطلب وليس الحاجة ، والقائمة على تعدد الخدمات وليس النتيجه ، والقائمة على تضارب المصالح بين العام والخاص بدون ضوابط ولا تسعير للخدمات ، ولا تقييم للخدمات الطبية والاداء والنتائج وانعدام لمعايير الجودة والسلامة ، وكل مازاد إنهيار النظام الصحي الحكومي كل مازادت الأمراض توحش واستفحال ، وزاد الإنفاق على العلاج من الجيب ، ويتم القضاء على كل المدخرات لمعظم الليبين ، وتتدنى المؤشرات الصحية والإنتاجية للمجتمع وينهار الاقتصاد أكثر من ما هو عليه ..
الصحة ركيزة اقتصاد وتنمية الشعوب