الوفاءُ قيمة نادرةٌ جداً، حد الغياب التام، في قاموس العلاقات السياسية الدولية كما تشير مجريات التاريخ العربي والعالمي. فالسياسة التي تعتمد أساساً، في أبسط تعريفها أو مفهومها الاصطلاحي الدلالي، على المصالح والغنائم والمنافع المتبادلة، لا تهتم غالباً بالقيم والأخلاق والأعراف التي تتأسس عليها سلوكيات الحياة الإنسانية النبيلة، وهذا ليس ظلماً أو تجنياً على سلوكيات السياسيين كافةً، أو الايحاء بأنهم يحملون قدرة على التلون والتعامل بوجهين، وجه طبيعي إنساني حين يتخلصون من أعباء الوظائف الدبلوماسية المنمقة، ووجه آخر سياسي رسمي متكلف بحكم العمل وما تتطلبه المهام الوظيفية السياسية، ولكن يأتي هذا القولُ استقراءً وتتبعاً في واقع بعض المواقف والأحداث التاريخية التي تشهد بهذا الطرح.
فمثلاً، كثيرٌ من الليبيين يتداولون تلك القصة العربية التي بطلها الشيخ الراحل زايد آل نهيّان مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة رحمه الله، وزيارته الشهيرة لليبيا سنة 1972م، وإجراءه عملية جراحية بمستشفى (اندير) بمدينة طرابلس، حين احتضنته ليبيا وقتها بكل حفاوة وترحيب على المستويين الرسمي الخاص والشعبي العام. ومما وثقته تلك الزيارة التاريخية تصريحه الشهير خلالها بكلمته الشهادة التي يقدم فيها (شكره لليبيين كافة، ويبدي إِعجابه بمدينة طرابلس وعمرانها ونظافتها وتطورها، وأمنيته بأن تصبح دولته الوليدة الإمارات المتحدة في مثل مستواها يوماً ما).
وطوال حياة الشيخ زايد رحمه الله تميزت العلاقاتُ الليبية الإماراتية بكل التقدير والاحترام المتبادل، والتعاون الثنائي بين الدولتين الشقيقتين، وكان ذلك كله بفضل حنكته وحكمته وكاريزما شخصيته القيادية الهادئة الرصينة، وقدرته على امتصاص كل التوترات السياسية والعقائدية التي كانت تبرز من حين لآخر على السطح السياسي العربي والإقليمي والدولي نتيجة شطحات ونزق معمر القذافي شخصياً وسياسات نظام حكمه السابق.
ولكن ما نلمسه حالياً في سياسة دولة الإمارات العربية المتحدة من انفلات وانقلاب (سياسي) ضد مباديء الشيخ الراحل و(أخلاقي) حد الإنهيار، يثير الكثير من الأسئلة المفزعة والصادمة، مع اليقين التام بأن طبيعة السياسة هو التبدل والتغير وفق معطيات ومستجدات متعددة، تحددها المصالح، والتي هي من يقود السياسة وليست المبادئ أو القيم أو الأخلاق.
فمن خلال التتبع والرصد لسياسة دولة الإمارات المتحدة حالياً نلاحظ أنها صارت تتسم بخاصية (صناعة العداء) بشكل ممنهج مع دول الأشقاء والجيران وحتى غيرهم في أماكن بعيدة جغرافياً عنها، وذلك بشن الحروب مثلاً في (اليمن وليبيا وسوريا)، واحتضان شتى أنواع الفساد الذي حوّل تلك البلاد البدوية البسيطة إلى مركزٍ عالمي لغسيل الأموال المهربة والمنهوبة، وسوقٍ عالمية للدعارة والبغاء تحت واجهات إعلانية مزيفة كالاستثمار والسياحة والعقارات، ولا شك بأن هذه السياسات التجارية المشبوهة تعكس تردي سمعة الدولة، لأنها تشير إلى غياب منظومة الأخلاق وانعدام الثقة في التعاملات بينها وبين الدول الأخرى.
إن سياسات دولة الإمارات العربية المتحدة الحالية والتي يغلب وصفها بالمتهورة والسيئة والمشينة تجعل حركات الاحتجاجات تتسع ضدها، وتزداد باستمرار بداية من اليمن إلى ليبيا إلى سوريا إلى كشمير، وهذا بلا شك يتناقض كلياً مع إرث الآباء المؤسسين وعلى رأسهم الشيخ زايد آل نهيّان بوصفه رمزاً وطنياً تاريخياً ومرجعاً أخلاقياً وقيادياً لا يقتصر على الشعارات الإعلامية والدعائية البراقة فقط، بل كان يتجسد سلوكاً عملياً على أرض الواقع في الأوساط الإماراتية والعربية والدولية. ففكر الشيخ زايد رحمه الله تميز بالتسامح والتعقل والحكمة، والابتعاد عن زرع الخلافات بين الأشقاء، ومداومة السعي في إصلاح ذات البين، ورآب ما تصدع من علاقات الأخوة والجيرة، وهو بفضل تلك الأخلاقيات الشخصية النبيلة استطاع توحيد الإمارات، واعتماد سياسات مستقبلية حققت لها الكثير من التقدم والازدهار والسمعة الحسنة على مستوى العالم.
ولا شك بأن هذا التغير العدائي المتطرف والممنهج الذي نشهده الآن في مناحي السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة والمتمثل في تميول الحروب، وإرسال الموت عبر الطائرات الحربية المسيرة، ودعم الإنقلابات العسكرية، وغيرها، يطرح العديد من الأسئلة المحيّرة حول الأسباب والدوافع والأهداف، فهل تصنف هذه السياسات الرعناء التي يمارسها أبناء الشيخ زايد بعقوق الوالدين، وعدم الوفاء لأخلاقيات والدهم الحكيم الراحل مؤسس الدولة الشيخ زايد آل نهيّان، الذي كان يرسل المساعدات ومبادرات التصالح بين الدول وليس السلاح والطيارات الحربية؟
أم تعتبر رداً على عجز مهمة منظومة (الأمن القومي الإماراتي) التخطيطية والبشرية في استرداد جزر “طنب الكبرى” و”طنب الصغرى” و”أبوموسى” وتحريرها واسترجاعها من إيران التي تحتلها منذ سنة 1971م أي حوالي خمسين عاماً؟
أم أنها تأتي هروباً من تداعيات صراعات العلاقات الإجتماعية المفككة داخل أفراد العائلة الحاكمة، والتي ليس آخرها هروب زوجة الشيخ محمد بن راشد، ورفعها دعوى قضائية ضده أمام المحاكم البريطانية التي حكمت لها بمبلغ 44 مليار جنيه استرليني في جزئية واحدة فقط من المطالبات المالية؟ وما يجره هروب الزوجة من عار وفضيحة في حق الرجل العربي … الفارس الشهم، وفق الأعراف والتقاليد العربية الأصيلة؟
أم أن الإمارات العربية المتحدة تعيش وهماً وهاجساً إقليمياً ودولياً، وتضخماً في الذات السياسية والنهضة المالية يوهمها بطغيان القوة والمال الفاسد والقدرة على الهيمنة والسيطرة تصديقاً لنص القرآن الكريم (إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ اِسْتَغْنَى)، والرغبة بأن تتحول إلى “أسبرطة” صغيرة تحارب من أجل نشر القتل والموت والخراب والدمار في كل مكان، والذي يقودها الآن للفشل والهزيمة والغرق في وحل رمال الصحراء الليبية الملتهبة الطاهرة؟
أم أنه (وفاء) خاص يمارسه أبناء الجيل الجديد من حكام الإمارات .. تجاه ليبيا ؟ أم ماذا.؟