الزعيم بين المفتي والسراج
لولا كتاب الدكتور محمد المفتي ” السعداوي والمؤتمر بين التمجيد والنسيان ” الصادر سنة 2005م ، لما ظهر كتاب ” السعداوي والمؤتمر …وضع النقاط على الحروف ” للسياسي والنائب السابق السيد مصطفى السراج ..فالثاني ، كما يقول ، صاحبه في مقدمته ” جاء لتصحيح ما ورد في كتاب الدكتور المفتي …. من معلومات حول الفترة الحرجة في تاريخ ليبيا الحديث من 1948 م إلى 1952 م ، بدت للمؤلف غير دقيقة وتحتاج إلى إيضاح ” كتاب السراج الصادر – في طبعته الثانية – عن دار الواحة ، سنة 2006 م ، وقع في 110 صفحة تقريبا ، من القطع المتوسط ، وإحتوى على 35 موضوعا ، قسمها الكاتب على إمتداد الصفحات وفق أسلوب منظم وواضح ، زاخر بالمعلومات والتواريخ والاستشهادات والمواقف ، التي كان المؤلف شخصيا شاهدا عليها و أحد صانعيها ، لكونه من مؤسسي حزب المؤتمر الليبي ومرشح الحزب و الفائز بإحدى دوائر طرابلس في إنتخابات 1952 م .. كتاب السراج مع انه يرد على الكثير من المغالطات الواردة في كتاب المفتي خصوصا المتعلقة منها بالتلميح إلى علاقة السعداوي بالانجليز وطموحاته السلطوية المفرغة من الحس الوطني ..إلا انه يستحق ان يوضع في مرتبة الشهادة التاريخية على فترة من أشد فترات العمل السياسي ، حلكة وإضطرابا في تاريخ ليبيا الحديث ، حيث يقدم صورة مكثفة ودقيقة لأهم الاسماء والرموز النخبوية التي تصدت للعمل الوطني في اللحظة الحرجة بين عامي (48 و52 م ) من القرن الماضي ، وصاغت وفق إجتهاداتها ورؤاها وخلفياتها السياسية والاجتماعية تفاصيل الحلم الليبي في إقامة دولة واحدة مستقلة.. من دون التورط في تقديس الماضي أو إزدرائه ، يرسم السراج ملامح تلك النخبة بريشة الحياد والموضوعية ، قائلا في الصفحة 26 ” كانت النخبة في تلك الفترة تتكون وتتفكك حسب المناسبات ، لكل موقف نخبه ، كما لكل معركة ضحاياها ، وبعضهم أقمار ضؤوهم ليس ذاتيا بل هو إنعكاس لنور شمس موجه إليهم…بعضهم من مذهب يقول ( إذا ذرت نياقك فاحتلبها – فلا تدري الفصيل لمن تكون) أو لمن يقول رب البيت يحمي البيت …..” ما شد إنتباهي بعنف وأنا أتنقل بين سطور الكتاب الصادر قبل عشر سنوات ، هو حالة التشابه حد التطابق بين الاوضاع وشكل الصراعات والتداخلات التي عاشتها البلاد قبيل الاستقلال ، وبين ما نعيشه الآن على حافة التشرذم والانقسام بسبب إنهيار الدولة وخروج الضباع من جحورها ..بيد أن الفارق الدقيق بين الحالين أنه برغم وجود المؤامرة وفداحة التشظي في تلك المرحلة ، فلقد توفر لليبيا رجال صادقين وزعامات تاريخية حقيقية إستطاعت بالحكمة والوعي والشجاعة والمثابرة والصبر أن تعبر بالسفينة بين أهوال العواصف لترسوا بها على شاطيء الوحدة والإستقلال وتسلمها كما هي دون نقصان إلى الاجيال الجديدة .. هؤلاء الرجال كان على رأسهم هذا الرجل الذي جاء الكتاب كمحاولة لإنصافه أمام محاولات التشكيك والتشويه المشوب بأغراض جهوية وولاءات سياسية واجتماعية متعددة ، هو ” بشير إبراهيم السعداوي ” المولود سنة 1884 م بمدينة الخمس ..والذي ذاق مرارات المنافي والملاحقة والتهجير في سبيل قضية بلاده الأم حتى انه دفن بعيدا عن ترابها بعد طرده من ليبيا الملكية التي ساهم في وجودها ، ولم يستعد رفاته إلا في العام 1972 م .. فما احوجنا اليوم إلى إستلهام روح و عقل الزعيم الليبي الكبير ونحن نخوض غمار هذه المحنة الوطنية القاسية ، وما أجدرنا بالإصغاء إلى كلماته الحكيمة المتوازنة مخاطبا جموع شعبنا بالأمس واليوم ، يقول في احد أحاديثه الواردة في كتاب السيد مصطفى السراج ” يجب على ليبيا ان تتكتل وتحافظ على وحدتها بأجزائها الثلاثة برقة وطرابلس وفزان ، وأن تنتزع إستقلالها انتزاعا ، فالاستقلال هو الحرية والحرية تؤخذ ولاتعطى.. الوضع يحتاج إلى جهد كل فرد من الأفراد مهما كان متواضعا ، علينا أن ننسى الضغائن ، وان نعفو وأن نتسامح ، وان نثق في أنفسنا وفي بعضنا البعض ، وان ننظر إلى المستقبل فلا وقت للحفر قي الماضي والبحث عما يفرق”.. إن إعادة قراءة التاريخ الليبي بالموضوعية والحياد اللازمين ، وبعيدا عن مشاعر الاصطفاف السياسي أو الجهوي أو القبلي ، قمين بأن يهبنا الدروس والعبر التي نحتاجها لمواجهة هذه التحديات الخطيرة التي تكتنف حاضر ومستقبل بلادنا ..كما أن إعادة الاعتبار للرموز والشخصيات الوطنية التي ساهمت في العمل السياسي طوال العقود السبعة الماضية أمر لاغنى عنه لتشكيل الوجدان والهوية الليبية على أسس ومباديء تجمع ولاتفرق ..فنحن لا نملك ترف ممارسة الانتقائية المرتهنة لوجهة نظر سياسية او ايديولوجية ، في كتابة تاريخنا الوطني إذا كنا جادين في معالجة هذه الشروخ العميقة التي أحدثها زلزال فبراير وتجاوز آثار الحريق الذي شب في البنيان الاجتماعي لشعبنا الصابر.. السعداوي وآخرون جاءوا ، قبله وبعده لايحتاجون لإنصافنا لهم ، فلن يصلهم منه شيء ، لكن نحن من يحتاج إلى إنصافهم و إنصاف عقولنا وعقول أجيالنا الجديدة أمام موجات الحقد التي تأكل ماضينا وحاضرنا وتكاد تأتي على مستقبلنا..
جمال الزائدي