كتاب الرائ

السيرةُ وجدليةُ الذاتِ والمرجعية –

يونس شعبان الفنادي -

السيرةُ وجدليةُ الذاتِ والمرجعية

يونس شعبان الفنادي

Fenadi@yahoo.com

الأدبُ جزءٌ من الهوّية الوطنية وركنٌ أساسيٌّ ومصدرٌ مهمٌ من المصادر التوثيقية ونوافذ الإطلالة على تاريخ المجتمع وتوجهاته الفكرية ومسيرته النهضوية وتطوراتها. وتعتبر السير الذاتية للأعلام من الشخصيات السياسية والدبلوماسية والفكرية المرموقة والعلماء البارزين والأدباء والشعراء رافداً أدبياً سردياً يعكس ويوثق مجريات وأحداث مختلفة تجمع بين التاريخ الشخصي الذي يمكن اعتباره جزاءً من التاريخ المجتمعي أو الوطني العام في بعض تقاطعاته، وبين تطور أساليب السرد والتوثيق من جيل لآخر من خلال الاستفادة من التطورات التقنية في هذا المجال.

كتابُ (جدلية الذات والمرجعية في سير الأدباء الليبيين الذاتية) للدكتور حسن الأشلم الصادر عن جامعة مصراته سنة 2015 يتأسس على قراءة تحليلية نقدية، وتتبع سير الأدباء الليبيين الذاتية حين اختار خمسة منهم حسب التسلسل التالي: عبدالله القويري من خلال إصداريه (أشياء بسيطة) و(الوقدات)، كامل المقهور من خلال سيرته شبه الذاتية (محطات)، أمين مازن من خلال سيرته (مسارب) بأجزاءها الثلاثة، علي فهمي خشيم من خلال سيرته (هذا ما حدث)، أحمد نصر من خلال سيرته (المراحل)، مبرراً اختياره لهؤلاء المبدعين بأنهم (يمثلون جيل التأسيس في المشهد الثقافي الليبي خلال مرحلتي الخمسينيات والستينيات، ويجتمعون على ممارسة تجربة الكتابة السردية إبداعاً ونقداً).

 

وارتكزت القراءة التحليلية النقدية وفق المنهج الاكاديمي الذي اتبعه الباحث المؤلف على ثلاثة محاور أو زوايا تسلسلت كالتالي أولاً قضية الجنس السردي، العتبات النصية: الإعلانية والتصديرية والميثاقية، وثانياً الشخصية والأحداث واتصالها بتتبع علاقة الذات مع المرجعية، وثالثاً تأطير السيرة من خلال دراسة علاقة الذات بالتشكيل الفني المتأسس على السرد والمكان والزمان.

وإن كان الباحث في إصداره الأكاديمي الممتع بأسلوبه اللغوي والمميز بموضوعه الجاد قد أكد بأن صعوبة دراسة السير الذاتية تكمن في عدم القدرة على التحقق مما يرد فيها من أحداث ومواقف وأقوال لأن كاتبها (يروي أشياءً يكون في الغالب هو وحده الذي يعلمها) فإنه في تصوري الخاص تكمن الإشكالية الفعلية عند كتابة السيرة الذاتية في مدى صدقيتها أولاً، ثم ثانياً في تقنية استدعاء أحداثها ومشاهدها من الزمن الماضوي ونقلها بالأسلوب وباللغة والدلالة الماضوية نفسها، وصياغتها بذات الفكر والروح والغايات الماضوية ذاتها، تلك التي ولدت فيها وعايشتها وتفاعلت معها، وليس بتأثير التطورات التي طرأت عليها بفعل التحولات الزمنية، أو تحسينها وتهذيبها وتزيينها وفق التغيرات المادية والفكرية المستحدثة في حياة كاتبها. فللأسف كثير من كتاب السيرة الذاتية يقعون في هذا الخلل المتمثل في تدوين سيرهم الذاتية وتحليل وقائعها وفقاً لفكرهم وأسلوبهم الناضج والمتطور والمعاصر في زمن الكتابة، وليس في زمن المعايشة الفعلية الحقيقية مما يجعلها غير متوازنة فكريا ومنفصلة عن جذورها الأصلية، وروحها الزمني، وفاقدة للكثير من صدقيتها وشفافيتها.

 

ومنذ التمهيد لمقدمة دراسته الاكاديمية اختار المؤلف مساراً بعيداً جعل أساسه التعريف بالأدب وتشخيص هويته الليبية كما رصدها في الأجناس السردية خاصةً التي هي موضوع كتابه. ثم تعمق وتناول جوانب فنية دقيقة حين حلل مقام الكاتب زمنياً ومكانياً وثقافياً وأيديولوجياً، مع إسقاط كل تلك العناصر الفنية على سير شخصياته المختارة للدراسة البحثية، واستعرض التقاطعات الزمنية المشتركة في حياة بعضهم مثل الدكتور علي خشيم وعبدالله القويري اللذين عاشا قرابة عشرة سنوات في مدينة بنغازي وأظهر مدى أنعكاس وبروز ظلال تلك الفترة بكل مناحيها في سيرتهما الذاتية. إضافة إلى تأكيده على أهمية الميثاق السيرذاتي الذي يعقده الكاتب السارد مع القاريء المسرود له، في رسم الإطار العام أو المنهج السردي للتعبير في نطاقه المحدد، مُبيناً الفرق بين السيرة الذاتية نفسها ورواية السيرة الذاتية ومرجعيتها، كما أبان الكثير من التأثير التاريخي على أدب السيرة الذاتية موضحاً أن بروزه كنصٍّ لجنس أدبي مستقل أخرجه من تأثير وهيمنة محكمة التوثيق التاريخي واشتراطاتها وما تتطلبه من دقة وتفاصيل مثبتة.

 

وفي خاتمة كتابه يخلص مؤلفه الدكتور حسن الأشلم أستاذ الأدب العربي إلى أن (.. موضوع السيرة الذاتية قد جاء انعكاساً لأزمة المشروع الثقافي لدى الأديب الليبي في زمني الكتابة والأحداث المركزيين في العهدين الملكي والعسكري، فإقصاؤه في كليهما، وكتابة سيرة ذاتية في الزمن الثاني تحت ضغط الخروج من المشهد، كل ذلك ألقى بظلاله على السيرة الذاتية، فاتصفت بالماضوية، والقصور في تغطية هذه الماضوية أيضاً من خلال غلبة المسكوت عنه الإيجابي، وتهميش أحداث بعينها…) وحول هذه الخلاصة الجزئية قد نجد أنفسنا لا نتفق معه كلياً بشأنها وذلك لسببين أولهما أن السيرة الذاتية هي ماضوية بطبيعتها لأنه لا يمكن أن نجد سيرة ذاتية حاضرة توثيقية للزمن الراهن المعاش، وثانيهما لأن السير الذاتية الأدبية المختارة للدراسة كلها كتبت في العهد العسكري، كما أسماه، وسجلت الكثير من الحقائق والوقائع وسربت معلومات وأراء قد نعتبرها مضادة لا تتوافق مع التوجهات السياسية والفكرية للعهد العسكري الحاكم، ولكنها استطاعت أن تشير إليها وتلامس بعضها وتوثقها من خلال تداخل والتحام السردي الذاتي بالعام سواء كان اجتماعياً أو سياسياً أو وطنياً بشكل شامل، وحتى إن كانت السيرةُ أو المذكرات سياسيةً صرفةً وليست أدبية خاصة فقد استطاعت اختراق ذاك الحصار المتين الذي حاول العهد العسكري الحاكم تطويق الماضي به ووئده وسجنه في محيط ذاكرة أصحابه فقط، ولنا نماذج كتب عديدة صدرت في هذا الجانب منها كتاب (صفحاتٌ مطويةٌ من تاريخ ليبيا السياسي) للسيد مصطفى أحمد بن حليم سنة 1992، وكتاب المرحوم محمد عثمان الصيد (محطاتٌ من تاريخ ليبيا) الصادر سنة 1996 وغيرهما.

 

أما نظرته المتفائلة والمبشرة بزمن ثري ينتظره مستقبل السيرة الذاتية في بلادنا بعد عام 2011 حيث أصبح فضاء حرية التعبير أكثر اتساعاً ورحابة وقبولاً، وتنبؤاته بأن (السيرة الذاتية في ليبيا تقف على مشارف مرحلة جديدة ومهمة، تؤكدها ملامحها المبدئية على أن العشرية القادمة هي عشرية الكتابة الذاتية في ليبيا..) فإننا نشاطره هذا الأمل والاستشفاف راجين أن يتم حصر وتسجيل إصدارات السير الذاتية خلال هذه الفترة وما يتلوها، ومقارنتها بما سبقها من فترات زمنية لرصد خصائصها وتميزها الموضوعي والسردي التقني.

 

إن كتاب (جدلية الذات والمرجعية في سير الأدباء الليبيين الذاتية) يفتح أبواباً عديدة أمام القراء والبحاث والمهتمين بأدب السيرة الذاتية في بلادنا، ويتيح لهم فرصة التعرف على بعض صور ومشاهد الحياة الشخصية للنماذج الأدبية التي استعرضها في فصوله، بكل ما فيها من مكابدة ومثابرة وعناء وعطاء، وتحليلها وفق أساليب علمية ومناهج أكاديمية دقيقة لتفكيكها وسبرها والغوص فيها بكل براعة وإتقان، وهو جهد كبير لا نملك إلاّ أن نباركه ونثني عليه ونشيد به، داعين بالتوفيق لمؤلفه والمزيد من العطاء الإبداعي المثري للفكر والمعرفة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى