حلقة مفاتيح
مفتاح العمّاري
تدوير خانة الصفر
بوصفك كاتبا ليبيا طموحا، لا ريب في أنك قد جربت كل الحيل الممكنة لتجعل منتجك الإبداعي نسيجيًا، وأكثر قربًا من الناس. لهذا لم تغفل بين حين وآخر إعادة النظر في الكتابة نفسها، ليس بوصفها نصًا لغويا يحتل حيزًا على الصفحة؛ إنّما كتوق
متوخّى، تسعى إلى استدراجه؛ عبر إغوائه وجذبه، باستخدام فخاخ مشروعة، طالما تستهدف إنقاذ حشد من كلمات تختنق. لهذا يلزمك بين وقت وآخر؛ إعادة النظر فيما تكتب باعتباره نصا يتمخّض. وفيما لو افترضنا تسمية المخيلة رحمًا، والنص جنينًا في طور التشكل والنمو؛ ستقتضي غريزة الأمومة الإصغاء لحركته ولغته وتململه، والحرص على تلبية رغباته، والاهتمام بضرورة تغذيته، ومراجعة الطبيب للاطمئنان على صحته؛ لأن أي
إخلال بالمتابعة؛ قد يسفر عنه موت الجنين داخل الرحم، مما يسبب في حدوث تعفن وتسمم وأعراض أخرى خطيرة يمكنها أن تؤدي إلى وفاة الأم أيضًا.
لاشك أن اختناق الكلمة، سيؤدي قطعًا إلى موت المؤلف. وسواء أكان الموت حقيقة أم مجازًا؛ فأن الفاجعة المحزنة أنه لامناص من هيمنة سلطان الموت على الحياة كقيمة جمالية، سيشي غيابها باتساع خارطة القبح؛ لتغزو مناطق كثيرة؛ ربما ستكون بمساحة وطن بأسره، وهذا سيؤدي حتما إلى فقدان المعنى.
أسوق هذه الصورة المحزنة كناية عن ارتباك دورة حياة الكتابة، عن تعطل وظائفها وعلاقاتها وتفاعلها؛ لا توقفها، وبالتحديد أشير إلى اختلال آلة ضخها، ونشرها، وتداولها؛ كاختلال لمنظومة خدمة الخيال، في أكثر تجلياتها نبضًا وحساسيةً. هذا الخوف المضمر هو ما دفعك للركون إلى حالة من اليأس المستعصي، وعوض أن تكرر محاولة الاقتراب من الواقع لعله يستدرك أخطاءه، ويهبك الخانة اللائقة بك، صرت تتقوقع داخل مخيلتك، مقترحا كتابة نفسك، والاستئناس بذاكرتك تلهفًا لإشباع نوستالجيا بدت متطلبة تحت وطأة النبذ والصمت والعزلة. ولأنه ما من أحد يصغي إليك، أو يقرؤك؛ أملت عليك محنتك: أن تسارع إلى تمثيل دور المُصغي والقارئ، لتكون الاثنين معًا (الباث والمتلقي) في آن واحد؛ فقط أن تصغي أخيرا إلى نفسك. وهذا ما حدث.
صحيح أنت محض شخص واحد، أي مجرد فرد يلعب فيما تبقى من الفراغ؛ كحيز مُزدرَى، تنعدم فيه خيارات الشراكة التي تكفل للنص تحقيق التفاعل مع الآخر(القارئ)؛ لكن إعادة النظر المتأنية ستصبح آخر التفاتة رحيمة إذا أفلحت فيما بعد؛ أن تجعل الواحد يتعدّد، ويختزل حشدًا مستنفرًا لتدوير المخيلة والكلمات والصور، وأنت أيضًا ستكون محورًا افتراضيًا، لتدوير نفسك، وذاكرتك؛ لأن مصيرك لا محالة سيغدو رهنًا باللحظة ذاتها التي تكون خلالها قادرًا على مقارعة النسيان واستدعاء كل ما هو تائه.
انطلاقًا من هذه المعضلة صرت تسوّغ كتابة نفسك؛ ليس تنصلا من واقعك المعيشي، وهمومك اليومية، وقضايا مجتمعك، بل وقفت على عتبة هذه الحكمة المصونة، حرصا على رئة المخيلة وإنقاذها
من التلف؛ طالما لا أحد يعبأ بما تكتبه، وأن محيطك أمسى لأمرٍ فيه يعلن خصومة
تاريخية مع القراءة. لهذا؛ وبتضامن شجاع عبّرتْ عنه كل حواسك دون تجمّل أو منّة،
أصبحت تقيم حفلا سريًّا، للإشادة بنوع
متفوق من الحوار الذاتي. لما لا؟ طالما أن اللعبة برمتها تهدف إلى استعارة ذكية؛
ليس لألف ليلة وليلة طرابلسية، أو لدون كيشوت ليبي، أو لأي صنف يحاكي هكذا مصنوعات كلاسيكية عظيمة؛ بل لابتكار رحلة أبلغ أثرًا وأكثر شأنًا؛ لأن شهرزاد هذه المرة توشك على الغرق، كذلك دون كيشوت، صار هو الآخر قاب قوسين أو أدنى من حافة الضياع، فيما لم تعد أية أحرف صالحة لصياغة شبه جملة مفيدة، مما يحذو بالسرد ضرورة التخلي عن عبارة ” بلغني أيها الملك”، كذلك عن مغامرات سيرفانتس. وهكذا: بعد الإقلاع الإجباري عن آفة التسكع، والتخطيط لأكثر من رحلة خارج النوم؛ فكرتَ جديًا في تقطير عزلتكَ على طريقتك وحدك، بوصفك كاتبا ليبيا، غير مرحب به. لذا كان لا مفر من العودة مجدّدًا إلى خانة الصفر، كمحاولة أخيرة لتدوير الفراغ؛ على نحو أكثر جدوى. فقط: لعلّك تتعلّم هذه المرة أنه في وسع جندي ما، في ثكنة ما، في شيخوخة ينهشها المرض، في صحراء بعيدة وجاحدة: أن
يكونَ لوحده حشدًا ضخمًا يكتسحُ أرضَ التجارب غير هيّاب؛ ودونما تردد سيفتتح أرضًا جديدة، حيث أكثر من غيمة وكتاب، وشجرة تشير، وامرأة تنتظر.