الجزء الثاني رواية الضوء العائد ..
كان سامح قد أكمل مهام تأمين شقته التي يسكنها وحيدا منذ عامين بشارع الاستقلال ( إمحمدالمقريف سابقًا ).
هذا الشارع الرئيسي والحيوي المتفرع أوله من ميدان الشهداء بطرابلس ( المدينة ) ويفتح أخره في ميدان الجزائر ، والمعروف سابقا ب ( ميدان الكاتدرائية ) نسبة إلي الكاتدرائية الكاثوليكية به ، والتي أنشئت في عشرينيات القرن الماضي بتبعية مباشرة لدولة الفاتيكان ، ولاحقا تم تحويلها إلى مسجد عرف بإسم جامع جمال عبدالناصر، وتداول القول مؤخرا بأنها كانت الأكبر في منطقة الشرق الأوسط .
ألقي سامح بنظرته الأخيرة قبيل مغادرته طرابلس علي محتويات شقته المعتني بتنسيقها وترتيبها علي نحو أنثوي مغري وخلاب ، تابع الرؤية بشكل بانورامي لكل الصور واللوحات التي علقتها حبيبته “عزة “علي جدران الصالة الفسيحة ، عمر المختار وجمال عبدالناصر وبن بيلا وباتريس لومومباونكروما ومانديلا وهيلا سيلاسي أحد حكماء إفريقيا العظماء ، كلهم بجوار صورة لأبي القاسم الشابي وصورة أخري لصديقه زياد وقد كانت هي الأكثر سطوعا بين كل ماحملته جدران تلك الصالة البهيجة .
عامين كاملين قضاهما “سامح وزياد” بعدن اليمنية يعملان معا بمعهد عبدالله باذيب ومتحف الشاعر الفرنسي أرثور رامبو.. المدفون فيها ، ولم يكن لهما حديث سوي طرابلس الرائعة الفتنة والدهشة .
بالنسبة لسامح “زياد” لم يكن
صديقا اعتياديا ، كان هو المفتاح لطرابلس البهية ، طرابلس الحب ، طرابلس النبض والقلب المتيم بها ، والموله بعشقها من قبل أن يراها ، طرابلس عروس المتوسط ، ( وأحلي مدينة طرابلس ) .
.طرابلس الغزالة والحسناء العارية ،وفيلادلفيا 1803 و 1986
طرابلس جامع أحمد باشا ، والشعاب ، ومولاي محمد ، والقدس ، وميزران وبوحميرة ، وجامع الناقة ، وبرج طرابلس ( الفاتح ) ، وذات العماد ، وبوليلي ، والقبة الفلكية ، والكورنيش ، والسرايا ، وسوق الذهب ، وبرج الساعة ، وقوس ماركوس ، وقصر الشعب ، والنصب التذكار، وفندق الودان ، وباب البحر، والمدينة ، وريكسوس ، والكبير ، والمهاري ، وجامعة طرابلس ، ومدرسة الفنون والصنائع ، والدار العربية للكتاب ، ومعهد جمال الدين للموسيقي ، ومركز جهاد الليبين ، ونادي الترسانة ، والمدينة ، والأهلي ، والاتحاد ، والوحدة ، والمحلة والعلمين ، والشط ، وسوق الجمعة ، والظهرة ، وزاوية الدهماني ، وقرقارش ، والهضبة ، وبوسليم ، والنوفليين ، وأحمد الحريري ، وحسن عريبي ، و خليفة التليسي ، وعلي صدقي عبدالقادر، وكامل المقهور.
****************************
هاتف سامح صديقهما”على” الذى قدم مسرعا بسيارته التويوتا الجديدة ، والتى انطلقت بهما إلى طرابلس ( المدينة القديمة ) ، حيث سوق الربع ، والترك ، والمشير، وسوق الفرامل والحرير، وباب الحرية .. لابتياع بعض الهدايا والتذكارات من المجوهرات والملابس التقليدية والفلكلورية ، لفتيات وسيدات عائلته بمصر ، وكذلك بعض الأعشاب والتوابل من سوق العطارة ، والتي كان قد استبقي شرائها لليوم الأخيرقبل سفره .
أكملا جولتهما داخل السوق الذي يعج بالحركة وبأصوات الباعة المتجولين وبأصداء الدق النحاسي في سوق القزدارة ، وإنطلقا عائدين بإتجاه أوسط ميادين طرابلس ..”ميدان الغزالة ” ..
ثم دورانا” عليه بمحاذاة الكورنيش المقابل لحديقة البلدية ، ثم انعطف “علي” يسارا” بالسيارة حيث الباركنج الذي تصطف فيه السيارات بمحاذاة الفندق الكبير، أو “الجراند هوتيل” كما يحلو لأبي تسميته .
لم يكن من المفاجيء لهما أن يجدا صديقهما المشترك “الباهى عبد الكريم” هو وحقيبته الجلدية الصغيرة بانتظارهما ، وما ان توقفت السيارة حتي رمي “الباهي ” بها علي الكرسي الخلفي للسيارة ، واندفع جالسا بجوارها .
وبعد أن هموا بالإنطلاق للمغادرة نحو مدينة بنغازى ، قابلتهم عند الموقف سيارة فارهة تلوح من نافذتها يد أنثي شابة ..
أوقف على محرك سيارته ، وهبط “سامح” مهرولا نحوها ، كانت عزة حبيبته .. لم تكتف بوداع أخير لهما قبل ساعات ، طوق كتفيها براحتيه القويتين ، وما لبث أن تسللت كفاه إلى ساعديها بضغطات قوية تهبط حتى كفيها الرقيقتين ، وما أن هم برفعهما نحو وجهه حتى ارتمت هى فوق صدره المنتفض ، وقد سكنت به .. فطوقها بقوة للحظات ، قبل أن يفتعل الباهى سعالا عاليا وهو مطل برأسه خارج نافذة السيارة من الخلف .
فك”سامح” اشتباكه بها ،وابتسامة مباغتة تملأ وجهه المتغضن بحزن شفيف . وكسرا لحالة مربكة لوحت هي بيدها الرقيقة للأصدقاء بالسيارة ، وانفضت حملقتهما حين ألقى “سامح” بجسده بجوار صديقه “على” الذى ضغط على زر الستريو أمامه ، فاندفع صوت المطرب محمد حسن (( غالي بطئ وأنا معلق عيني )) ، وضحك ثلاثتهم والسيارة تغادرمن أمام الفندق الكبير بطرابلس . ..
كان المتوسط لحظتها على غير عادته .. ساكن جوفه فى الأفق البعيد ، وشاطئه القريب سيرتقون بمحاذاته وعبر الطريق الساحلي الي مدينة بنغازي .. تبعا لهوى صديقهما المصرى ، والذى يصر على السفر عبر هذا الطريق ، معللا ذلك إثر كل مرة كانوا يتفكهون فيها عليه فىمسامراتهمهو ليس خوف بل انتماء الجغرافيا لحقيقة التاريخ ) .
ويردف بعدها باللهجة المصرية : ( إنتوا ليه موش قادرين تفهموا إن الطريق ذا ليه رمزية تاريخية تشير للإنتماء الواحد رغم المساحات الشاسعة لهذا البلد ، وهوا كمان شريان تاريخى بين ليبيا ومصر ؟ ليه ؟! ) .
كان عليهم أن يكملوا المسير بلا توقف حتى مدينة سرت ، مرورا بمدينتى الخمس ومصراتة ، وهذه كانت رغبة “الباهى عبد الكريم” صديقهم ، ابن هذه المدينة .. لكن باقترابهم من الخمس لاحظ على انكسارا” تلمع خطوطه واضحة وجلية بوجه صديقه سامح ، فانتهز فرصة اقترابهم من استراحة النقيزة الرائعة وعرض عليهما تناول غداء خفيف وبعض منالقهوة ، في محاولة منه لإستخرج صديقه “سامح” من حالة شروده الأسيان ، والتى يعلم بكل تفاصيلها ، والتى هيمنت عليه بعد وداعه لعزة .
وكان لحظتها مائلا”برأسه نحوه ، يلاطفه ويحاول التخفيف من وطأة أساه ، وهو يغادر طرابلس التى يهوي .. كما قصة عشقه ، والتى يتداولها الكل بشىء من غيرة وحسد بينه وبين عزة ، والتى تسمرت جامدة عند باب سيارتها شاخصة نحو المتوسط الساحر، والذى تراءت لها أمواجه وكأنها تفيض وتمتد بمكنون عميق يهطل من روحها خلف حبيب غادرها إلى حياة غامضة تفاصيلها عليها .
لكنها كثيرا ما كانت تشعر بوخزات عميقة ، حين تحاول كشف مالم يشف هو لها عنه حتى فى لحظاتهما الحميمة ، التى كانا كثيرا ما يقتنصاهابعيداعن زحام العمل فى الصحيفة وعن مهامه التدريبية أو التحريرية بها .
ولأن المصادفة فقط هى من رتبت مجلسها بالصف الأول أمام منصة كان يلقى هو من فوقها محاضرته التدريبية لمتدربين جدد شبانا وشابات يحوزون قدرا كبيرا من التوثب والطموح المهنى ، ولأنها كانت أكثرهم بريقا بملامحها القريبة من مصريته وبأنوثتها المشتعلة وأناقتها البسيطة القريبة من مظهر الفتاة الأوروبية ، فقد عجلت بتوافق واضح بينهما بعد أول محطة تعارف فى بهو الصحيفة .
*****************************************
كمحارب أنهكه الإعياء ارتمت عزة علي مقعدها بالسيارة بعد أن ودعت سامح ، رجفة شوق عاتية تخضها وكأنه بعيد عنها منذ قرون ، تأملت لو طال بقاؤه أكثر، لم تشبعها تلك اللحظات المسروقة من عيون العابرين ، لم تطفيء وهج حنينها إليه ، ولا احتياجها الملح لوجوده بجانبها .
ولم يوقظها من شرودها سوي أبواق السيارات التي اصطفت في طابور طويل خلف سيارتها ، وحينها تهاوي طرف حذائها بتكاسل علي دواسة البنزين ، وأسرعت ترتمي فى تلافيف ذاكرة جمعتهما معا ، ولقاءات كانت تحضن شوقهما في مكتبها بالجريدة التي كانت مشرفة الصفحة الأدبية بها . أوفي شقته بشارع امحمدالمقريف حيث كانا يجتمعان هما وأصدقاء لهما يتسامرون ويضحكون ويتبادولون أحاديث السياسة والمساء والعشق .
فتحت عزة باب شقتها ووالديها .. لم يكن هنالك من أحد بداخلها ، أمها سافرت لزيارة جدتها بمصر والتى صارت وحيدة إلا من حفيدتها ..لخالها الضابط فى سلاح المدفعية والشهيد بحرب اكتوبر عام 1973
والدها لا يزل بمكتبه ، لايغادره إلا بعد الثامنة مساء حين يكون قد أنهي مراجعة كل القضايا التي قرب موعد الجلسات الأخيرة لها ، وكثيرا ما كان يترك أمر إغلاقه لسكرتيرته المرافقة له معظم أوقاته .
كان والدها منتميا” فكريا” للتيار القومي الناصري ، وكانت أمها كذلك بالتبعية لأبيها .. كلاهما تخرج من كلية الحقوق بجامعة القاهرة ، وقد تعارفا أثناء الفصل الدراسىالأخيرلهما.. تزوجا .. واصطحبها إلي ليبيا في العام 1974
أما أختها الوحيدة “ياسمين” والتي تكبرها بسنتين ، فهي خريجة كلية الزراعة جامعة طرابلس .. تزوجت وأنجبت طفلين تعتكف علي تربيتهما وتنشئتهما وفق ارشادات تربوية صارمة تمليهم عليها أمها وأبيها كإبنة بكر.
عادت”عزة ” مثقلة بالاشتياق ومكتظة بالتفاصيل ومسكونة بالذكريات ، فارتمت هذه المرة علي سريرها تقلب في هاتفها الذكي باحثة عن حنين الأوقات المزحومة بهم .. تارة تعاود نسخ اللحظات في كل الملفات ، وأخري ترسم ملامح الصور في أكثر من ذاكرة .
نهضت متجهة ناحية المطبخ لإعداد شراب نعناع مهديء أو يانسون دافيء تهدئ به من فوران مشاعرها التىتستشعرالفقدان نتيجة سفر “سامح” المفاجيء والغير ضروري بالنسبة لها ، خصوصا وأنها تحتاجه لإنهاء بعض العروض في كتب اختارتها بعناية لكي يطالعها بعد أن وعدها بكتابة تقارير نقدية عنها لتنشرها علي صفحات الملف الثقافي .
وفي هذه الأثناء استحضرت ذاكرتها كل مايتعلق “بسامح” والفريق الصحفي الذى استضافته المؤسسة الإعلامية التي تتبعها من مصر ولبنان لتدريب الصحفيين الجدد كل حسب اهتمامه ومسارات انتاجه المهنى ..
وكانوا قد غادروا جميعهم ولم يتبق منهم سوي “سامح” الذي ربطته علاقة مصاهرة روحية بها لكونه طرابلسي الهوي أولا ، ومصريا يحمل روحا تصاهر روحها وروح أمها .
اكملت فنجانها ، وغلبها بعض النعاس الذي حلق بها بعيدا لأمسيات كانا يقضيانها معا ، حيث كانت كثيرا ماتورطسعة اطلاعه وثقافته الخصبةفي علامات استفهام كبيرة ومحفزة .
كان هنالك الكثير مما يثير اعجابها في الرجل خلاف جاذبيته وحنيته وأصله .
سوزان عاشور
د.علي المبروك أبوقرين حدث في العقدين الأخيرين تطور متسارع في التقنية والتكنولوجيا الطبية مما أثر…
يسرني وبكل فخر أن أتقدم بأصدق آيات التهاني والتبريكات لوزارة الصحة والحماية الاجتماعية المغربية بمناسبة…
د.علي المبروك أبوقرين للتذكير جيل الخمسينات وانا أحدهم كانت الدولة حديثة العهد وتفتقر للمقومات ،…
د.علي المبروك أبوقرينقررت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 ديسيمبر 2007 على أن يكون 14…
في حلقة جديدة من برنامج كلام الناس 22 سلطت الضوء على أسباب سيطرة المنتجات المستوردة…
د.علي المبروك أبوقرين في نهاية الأربعينات وقبل إستقلال البلاد بمدة بسيطة , وفي ضواحى طرابلس…