سدود وادي درنة، البداية والنهاية !!!
(بقيت 50 سنة وانتهت بفاجعة تاريخية)
دكتور / عبدالمنعم سعيد
درنة مدينة تقع على ضفاف وادي كبير “وادي درنة”، هذا الوادي الذي يتجاوز طوله 60 كم ومساحة حوض التجميع له تبلغ 575 كم مربع. نتيجة لتكرار حدوث الفيضانات في المدينة بسبب مرور الوادي بوسطها أوصت الدراسات التي اجريت في الستينيات بضرورة انشاء أكثر من سد واحد من أجل حماية المدينة ومن أجل حجز الكميات الهائلة من المياه التي تجري بالوادي في وقت الفيضان وينتهي بها الأمر بالبحر.
في بداية السبعينيات قامت أحدى الشركات اليوغسلافية ببناء سدين ركاميين (القلب من الطين المدموك، والجوانب من الحجارة والصخور) على مجرى الوادي، سد البلاد وهو يبعد مسافة حوالي 1 كم جنوبا من قلب المدينة بسعة تخزينية في حدود 1.5 مليون متر مكعب، وسد ابو منصور ويبعد حوالي 13 كم جنوب السد الأول، وهو سد كبير بسعة حوالي 22.5 مليون متر مكعب، طوال حياتي لم أشاهد أن سد بومنصور قد امتلاء نظرا لكبر سعته التخزينية.
بناء هذه السدود أنهى مشكلة الفيضانات بالمدينة، والتي كانت تتسبب في خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات. من ذلك فيضان 1941 والذي تسبب في خسائر كبيرة للجيش الألماني، وفيضان 1956، والفيضان الكارثي سنة 1959، وفيضان 1968، وفيضان سنة 1986 الذي رغم كبره إلا أن السدود لعبت دورها في منع حدوث الأضرار بالمدينة. ويظل فيضان سنة 1959 هو الأكثر إيلاما في ذاكرة المدينة بسبب عدد الضحايا والخسائر المادية قبل حدوث فيضان يوم أمس 11 سبتمبر 2023.
فيضان سبتمبر 2023 هو الأكثر شدة ودمارا وخرابا وإيلاما عبر تاريخ هذه المدينة لعدة أسباب منها:
(1) أن كميات الأمطار التي سقطت في فترة أقل من 24 ساعة تجاوزت في حوض تجميع الوادي 200 ملم وهذا يعني أن حوض التجميع استقبل ما يزيد عن 115 مليون متر مكعب من المياه، وهي كمية أكبر بكثير من قدرة تحمل السدود مجتمعه. وهذه الكميات لم تسجل سابقا في كل الفيضانات المسجلة (المقصود التساقط المطري في عدة ساعات).
(2) أن وجود السدود خلال الخمسين سنة السابقة خلق حالة من الإطمئنان لدى الناس مما جعلهم يزحفون بالمباني والطرق والمنشآت على ضفاف الوادي التي لم تكن مقصودة عبر التاريخ بانشاء الطرق والمباني.
(3) بعكس الفيضانات السابقة حيث كانت المياه تتدفق بحرية من خلال المجرى، فإن فيضان فجر الأمس كان بسبب ما تراكم خلف السدود من كميات كبيرة بالإضافة إلى ما جاء به الوادي من كميات إضافية هائلة من المياه مما جعل هذا الفيضان تاريخي وغير مسبوق. أحد الأدلة على ذلك أن أضرحة صحابة رسول الله بقيت هناك منذ الفتح الإسلامي رغم كل الفيضانات عبر التاريخ، حتى فيضان فجر الأمس الذي أكتسحها وعدة أمتار تحتها وأصبح مكان تلك الأضرحة الأن في الهواء بعدة امتار فوق سطح الأرض.
فلا شك بأن هذا الفيضان لم يسبق أن رأته المدينة عبر تاريخها، لقد تغير كل شيء، بما فيها لاندسكيب المدينة، لقد اتسع الوادي الآن ليشمل عدة شوارع وأحياء على جنباته وطول مجراه في المدينة. وأصبحت المدينة اليوم بدون حماية من أي فيضان آخر ولو كان بسيطا. وعليه يجب أن تتغير طريقة التعامل مع هذا الوادي من الجذور.
دائما ما نقول أن محاولة إدارة الطبيعة تكون نتائجها كارثية، والصحيح والآمن دائما هو العمل مع الطبيعة بقوانينها وواقعها، وليس محاولة السيطرة عليها. وإن ما حدث فجر الأمس ستكون له آثار كبيرة على حياة الناس وتواجدهم بالمنطقة. لقد بقيت هذه السدود 50 سنة بالكمال والتمام، وانهارت يوم أمس، وهي فترة يجب دراستها بتمعن، ومعرفة كل جوانبها الايجابية والسلبية، ليس فقط من أجل الجوانب الأكاديمية الصرفة، بل كذلك من أجل استشراف طرق مغايرة للتعامل مع السدود والأودية في كامل ربوع ليبيا.
نقلا عن صفحة أخبار وزارات وهيئات ومؤسسات الدولة الليبية
لم يكن تفاقم هذا الدمار، مقصورا على انهدام سد الوادي فحسب، بل كان من أكبر أسباب تفاقم هذا الدمار، الخطأ الفادح من التخطيط العمراني في مدينة درنة، الذي تم فيه الإذن ببناء العمارات والمساكن على جوانبي وادي درنة، الأمر الذي يقتضي أن يكون في إعمار مدينة درنة ترك مسافة كافية بين مركز الوادي وبداية العمران، وأن يتم تحديد هذه الماسافة وفق دراسة علمية دقيقة، تمنع تعرض المباني المجاورة للوادي في حالة حصول مثل هذا الفيضان الذي حدث هذا العام.
والله الموفق