صورة وتعليق ( 2 )
سالم الوخي
أواصل الإطلالة علي بعض جوانب صورة الصراع الفكري بين القديم والجديد ، أو بين الأصولية والمعاصرة في الساحات العربية والإسلامية ، أو بين ( الثابت والمتحوّل ) علي رأي المفكر والشاعر السوري المعاصر ادونيس ، مركزا اليوم علي المنازلات الثقافية الداخلية داخل الذات العربية ، وكما سبق وأن أوضحت تعتبر مشاهد نمطية مكررة خرجت من رحم الصدامات السياسية والايديولوجية والاجتماعية ، وعناوين بارزة علي صفحات التاريخ والواقع العربي التصقت بهما ، وأدنو من القول بأنه لا سبيل بقرب مغادرتها صفحات الواقع .
أحيانا يتردد أن الاشتباكات الفكرية وتموّجاتها لا تتماهي مع التشظي والجمود ، بل دليل حيوية وتوهج وخصوبة للعقل ، وضمن هذا التوجه التفاؤلي ، سبق وأن أشار المفكر المصري المرحوم الدكتور عبد الرحمن بدوي 1917 -2002 ، الي ( أن الصراع بين مدارس الفكر والثقافة المختلفة لايحدث ويشتد ، إلاّ عندما يكون العقل في أوج تألقه ، ويضعف عندما تُبتلي الأمة بإطلاق الأحكام النهائية والمطلقة ، دون أي جدل حيّ ورمزي خلاق ) .
وعند البحث عن الجذور ، دأب ورفيق رحلة البحث عن الحقيقة ، نلامس بذور هذا السجال والصدام الفكري القديم الجديد ، في تربة العصر الأموي أثر اختلاط العرب الفاتحين القادمين من الجزيرة العربية بالأمم والحضارات والثقافات والفلسفات والرؤي الباطنية والإشراقية السائدة آنذاك ببلاد الرافدين وفارس والشام ، خاصة الفلسفة اليونانية التي أصطلح علي تسميتها بـ ( علوم الأوائل ) وصنفت سلبيا علوم ومعارف دخيلة.
ولا زالت عدة بقاع عربية وإسلامية تكابد رياح التجاذب والانقسام وتدفع فواتيرها الباهظة ، أو تعاني أعراض نظرية ( مكر التاريخ ) كما صاغها فكر الفيلسوف المثالي المادي الألماني الأشهر ( فريدريك هيجل 1770 – 1831 ) ، بمعني أن التاريخ من خلال الصراعات والدمويات والانتكاسات يفرغ جدليا – قبل التعافي – شحنات من مخلفاته وتراكماته ..
وتمظهر مسار التجاذبات مع حركة الاعتزال المنادية بالاختيار وحرية الإنسان ، بالشام والعراق في العصرين الأموي و العباسي ، متجسدة في واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، والجبائيان ، والجاحظ ، والزمخشري ، وغيرهم ممن رفعوا شعارات ولافتات الحرية الإنسانية والنظر العقلي والتحسين والتقبيح من داخل الجماعة الإسلامية والثوابت الراسخة للدين الإسلامي الحنيف ، دفاعا عنه وذودا عن حياضه أمام هجمات الفلسفة اليونانية .
وكانت مواجهات استئصالية ذاتية بين التيارين الاعتزالي والمحافظ ، انتهت بانتصار الأخير بعد القرن الـحادي عشر الميلادي الي أن استؤنفت معاركها مع بداية عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي إبان حكم محمد علي لمصر ، وبروز شخصيات نهضوية من بينهم ، رفاعة الطهطاوي ، وفارس الشدياق ، وخير الدين باشا التونسي ، وشكيب أرسلان اللبناني الذي طرح عام 1939 ، سؤالا استراتيجيا ضخما بحجم أزمة العرب وصراعاتهم ، ذاع وانتشر عن أسباب تأخر المسلمين وتقدم غيرهم ، لم تتم الإجابة عنه الي الآن …
ونعود الي الخلف زمنيا ، ونرصد أن تاريخ الفكر العربي سجل أول محاورة فكرية فلسفية بين قامتين من جهابذة الفكر الإسلامي ، تحملان توجهات شديدة التباين عظيمة الاختلاف ، في مواجهة عبر الكتب ، أراها مؤشرا علي تطوّر الفكر الإسلامي ، طرفاها من المشرق العربي ومن أقصي المغرب ، جدال بين المحافظة والتجديد ، بين الرافض لقوانين السببية ، وبين القائل بوجود نوعين من معرفة الحقيقة..
أعني المحاورة بين حجة الإسلام أبي حامد الغزالي (1058 -1111 م. ) في كتابه ( تهافت الفلسفة ) ، والفيلسوف الأندلسي إبن رشد ( 1126 – 1198 م .) بكتابه ( تهافت التهافت ) …
يفصح عنوانا الكتابان عن الاختلاف الجذري في الموقف من الفلسفة ، وإن كانت المحاورة متأخرة ، وجرت بعد وفاة الغزالي بعشرات السنين ..