عمارة الفن تنهار باصطدام موجع
خاص/ليبيا الإخبارية
بقلم/ منى بن هيبة
ودعت فزان عن بكرة أبيها فنانها الفطري عمارة الذي تعرض لحادث سير موجع ألزمه الفراش في غرفة العناية الفائقة بمركز طرابلس الطبي بعد نقله من مركز سبها الطبي الذي استقبله بأسف شديد؛ ولم يمهله الأجل المحتوم طويلا حتى انتقل إلى بارئه عز وجل، تاركا وراءه العديد من المفردات الشعبية التي تغنى بها فوق رمال واحة قبرعون الذهبية وشارك الناس في العديد من المناسبات الاجتماعية.
هو عمارة امحمد أبوراوي من مواليد قبرعون- بنت بية، أسس فرقة أصدقاء الوادي عام 1990م، وهي فرقة غنائية مؤلفة من أربع أشخاص خامسهم عمارة، امتازت بالبساطة والعفوية التي تقابلك من الوهلة الأولى وأنت تشاهد تفاصيلهم ابتداء من لباسهم الشعبي البسيط واكتفائهم بعدد محدود من الآلات الموسيقية والتي لا تزيد عن الطبل، المقرونة والبرميل ويعرف عندهم بإسم برميل جرماوي؛ وهو عبارة عن برميل أجوف يتسع لعبوة 20 لتر من الوقود، ويمتاز بعلو الصوت بعد خلو جوفه من أي مادة، حيث يقوم الطبال بالضرب عليه مبدلا بين يديه اليمنى واليسرى بضربات سريعة متناغمة لاحداث الصوت الموسيقي المتماهي مع كل نغم قادم من الفنان الفطري عمارة، وعادة الأصدقاء في هذه الفرقة كغيرهم يقومون بعملية إحماء للطبل فيضعونه في الخلاء تحت أشعة الشمس حتى يمتص حرارتها فيبعث في نفوس الحاضرين دفقات ملتهبة من مشاعر الفرح، وبعد تهيئة المقرونة للعزف عن طريق التجريب الأولى لأعواد القصبة المكونة لها والتي تنبعث منها النغمة الموسيقية المصاحبة للمفردات الشعبية، يجتمع الأصدقاء بعد اختيار مكان لهم ويكون في الغالب جانبا من الرمال في إحدى زوايا بحيرة قبرعون فيجلسون قي جو لا يكاد يخلو من السرور والفكاهة ضاحكين على خيبات الأمل ساخطين على قسوة الحياة وشح المعيشة وتردي الأوضاع الحياتية تارة، مكتفين بعطايا الرحمن تارة أخرى، معبرين عن الصبر والإيمان متمسكين بالأمل متطلعين نحو غد مشرق قادم بعون الله تارات:
جيب الرملة يا ولدي.. أنا انخلط وانت تبني..
الحدادي ما دارن شي.. والنزيلة ميتين اجني..
يحاكي عمارة حال الأم الجنوبية التي ترى ابنها يكبر أمامها ويغدو عريسا ويتطلع للاستقرار الاجتماعي وبناء بيت الزوجية لإكمال نصف دينه، بينما لا تملك والدته ما تقدمه له غير البكاء على ما تبقى من مجوهرات لامعة تطوق معصميها، تفكر الأم في بيع هذه المجوهرات لعلها تقدم شيئا ما يعينه على وضع حجر الأساس في زمن الغلاء المعيشي، تناشده بالبدء في إحضار حبات الرمل وتهيئ نفسها للعون حتى البناء والتشييد، وتتابع التفكير فيما بعد إتمام هذه العملية والمتمثلة في توفير مهر العروسة وما يتبعه من التقيد بالأسبار المتوارثة عن الأجداد ولعل أقلها ما يعرف بالنزيلة وهي قيمة تعطى لعمة العروس قبل مغادرتها بيت الأهل والتوجه لبيت الزوجية، وبموجب هذه القيمة يتحدد المصير باستلامها والانطلاق في تأسيس حياة جديدة، أما في حالة عدم قدرة أو نسيان أو تغافل أهل العريس عن سداد هذا المبلغ المادي قد يتوقف الفرح وينتهي الأمر بالرفض ليذهب كلا الطرفين في حال سبيله.
ظلت لسنوات فرقة الأصدقاء حاضرة بقوة في مختلف مناسبات أهل فزان عامة ومناطق وادي الحياة بشمل خاص، فقد لبت دعوة الكثيرين في مختلف المناطق الجنوبية كما كانت لهم مشاركات واسعة في العديد من المحافل الشعبية في ليبيا، لفتت انتباه السواح الأجانب الذين يقصدون قبرعون للاستجمام ويلتقون صدفة بالأصدقاء فتتاح لهم فرصة الجلوس والاستمتاع والاستمتاع حتى اقترن اسم الفرقة بإسم بحيرة قبرعون، ويحكى أن كرستينا وهي سائحة أجنبية كانت تحرص على السؤال عن الأصدقاء كلما زارت البحيرة بل تطلب اصطحابهم في مختلف رحلاتها السياحية وبهذا انطلق الأصدقاء من المحلية نحو العالمية وسافرو العالم دون الحاجة للتنقل عبر البر أو البحر حيث كانت أصوات أنغامهم بمثابة بطاقة عبور لقارات العالم.
وهكذا هي البساطة سرعان ما تلج الأفئدة وتستقر في حنايا الروح، وتأبى الرحيل.
وبالرغم من أن عمارة فارقنا إلا أنه لن يغادر عالمنا فأغنياته الجميلة عالقة في أذهان الجميع، يرددها الصغار والكبار على حد سواء في كافة المناسبات الاجتماعية، بل في جل الأوقات ولا نبالغ إن قلنا أنها أصبحت ملاذا للمتصبرين والتائهين والباحثين عن الخلاص الإنساني في زمن الضغوطات الحياتية التي تتضاعف يوما بعد يوم، هكذا ودعتنا روح عمارة الذي عمر الأزقة والشوارع والخيام بالفرح ورسم البهجة على محيا الوجوه الجنوبية مخلفا وراءه دعوة البسطاء بالخير في موسم الرحيل المفجع؛ في الوقت الذي كان ينتظر من الجميع أن تدعوه للقدوم والمشاركة وإحياء مواسم الفرح ولا نقول إلا ما يرضي الله إنا لله وإنا إليه راجعون.