كتاب الرائ

فاكانيتي والوباء والتطعيم

د.علي المبروك أبوقرين

في نهاية الأربعينات وقبل إستقلال البلاد بمدة بسيطة , وفي ضواحى طرابلس كما هي طرابلس مستعمرات إستيطانية إيطالية ، وتحت سلطة الإدارة البريطانية ، وكان فاكانيتي الايطالي يملك بحكم الاستيطان أراضي زراعية شاسعة في ضواحي طرابلس مثله مثل العديد من الايطاليين الذين يستوطنون معظم الأراضي  الزراعية في ليبيا ، ويجاوره كرمي وامبيليو والكونتي وغيرهم من أبناء جلدتهم ودينهم ، منهم من كان عنده رفق بالفلاحين والعمال ويتفقد أحوالهم ، ومنهم من كان غير ذلك قلوبهم قاسية ويتعاملون مع العمال بغلظة وغطرسة وبدون رحمة ، والظروف كانت صعبة وقاسية على الليبين ، وفاكانيتي وأبنه  فريدو كانوا  من أصحاب  القلوب اللينة ومتسامحين  مع العمال ، وفي العادة يسكنون العمال والفلاحين في بيوت من القش أو الصفيح أو الشعر على أطراف مزارع الايطاليين ، ومعظمهم يفضلون أن يكونوا متقاربين من بعض ، ويتخدوا شجر السدر بينهم ساتر ، وواقي من التغيرات الجوية ، ومناشر لملابسهم ، ومغذية ثمارها على صغر حجمها ..

وفي يوم من الأيام إكتشف فاكانيتي أن علي أحد الفلاحين الأكثر إلتزام ويتميز بالخبرة والمهارة في العمل غائب لعدة أيام ،  فقرر  زيارته للاطمئنان عليه وذهب إليه بعربته التي يجرها حصان ( الكاليس بالايطالى) حيث يقيم مع باقي الفلاحين ، ووجده مريض طلب منه الراحة إلى  أن يأتيه في الغد مصحوب بطبيب لإجراء الكشف الطبي وعلاجه ، فخاف علي لأن في تلك الفترة كثرت الأمراض والاشاعات وإن من يذهبوا به للمستشفى بطرابلس يموت ولن يعود  ، فقرر علي  الهروب عند أحد جيرانه الذي يبعد عنه سدرتين أو أكثر ، وحضر في اليوم التاني فاكانيتي ومعه الطبيب ولم يجدوا  علي في مسكنه وسألوا عنه ، ابلغوهم  أنه عند جاره خائف من الطبيب ، وقرروا الذهاب إليه حيث هو ، ولكن الطبيب سمع أنين  وكحة في بيت علي فدخلوا حيث الصوت وجدوا زوجتة في حالة أكثر سوء منه ، اجرى لها الطبيب الكشف وأعطاها الدواء واخذ منها عينات دم وبلغم ، وذهبوا لزوجها علي حيث يختبي واخذوا منه عينات للتحاليل وفي اليوم التاني حضرت سيارة اسعاف واخذت علي وزوجته لمستشفى كانيفا بطرابلس ، وحضرت معهم مجموعة كبيرة من الأطباء والمسعفين والسوريلات ( راهبات يمتهن التمريض بحرفية وتأهيل عالي ) ومعهم عربات كبيرة مختلفة ومجهزة ، وعلى عجل متعقل نصبوا خيام كبيرة مقسمة داخلها وبها عدة طاولات رخامية لتطهير الناس بالمياه الساخنة والباردة ، وجمعوا النساء والأطفال في واحدة ، والرجال في الاخرى تجاورهم معدات مجرورة احداها للمياه الساخنة والاخرى للبادرة ومعدات لغسيل الملابس السريع ، وأخرى للتجفيف ، وطلبوا من الجميع خلع الملابس وقاموا بغسلها وتطهيرها وتجفيفها ، وبعد استحمامهم جميعًا بالمياه الساخنة والباردة ارتدوا ملابسهم ، وفي نفس الوقت مجموعة أخرى بمعدات للرش بالمطهرات قامت بتطهير وتعقيم كل البيوت خارجها وداخلها ، وفي يوم كامل قاموا بواجبهم واستكملوا مهمتهم ،وطلبوا منهم على كل من تظهر عليه اي اعراض مرضية يبلغوا فاكانيتي أو  أبنه  أو  الكبران ( رئيس العمال ومراقبهم وهو من بني جلدتهم وغالبا يكون أكثر قسوة من المستوطن ) وأيام قليلة واتخذت السلطات الحاكمة حينها انجليز وايطاليين تدابير صحية ، وارسلوا سيارات لنقل كل السكان لمنطقة مجاورة تبعد مسافة عشرة كيلومترات جُهزت لإعطاء التلاقيح لكل الناس ، وتمت عملية التحصين للجميع بترتيبات لوجستية ومهنية صحية منظمة ، وأعادوا السكان لمنازلهم ، وعادت الثقة وزال الخوف من المرض اللعين الذي قضى على بعض من أقاربهم ، ولولا زيارة فاكانيتي لعلي الفلاح الذي افتقده لغيابه عدة أيام لأستشرى المرض في الناس ولكانت النتيجة كارثية وقضى على الكثير من الأرواح ، ولكن فطنة صاحب العمل وحرص الجهات المسؤولة واستعدادها التام للتعامل مع التحديات الصحية حينها ، أستطاع الجميع ان يقوم بدوره لحماية الناس وحماية أنفسهم حتى وان كانوا مستعمرين ومحتلين الوطن ، وبعد 70 عام تعيش البلاد وباء الكورونا وكانت تجربة سيئة جدا ، اعلى انفاق على الكوفيد 19 بالمقارنة ، واسواء مخرجات ، ونفس الخوف تكرر  ، بعد أن كانت البلاد من الدول المتقدمة في الطب الوقائي وتعتبر من البلدان القلائل التي تتمتع ببرامج تحصين وتمنيع متكاملة لجميع فئات المجتمع ، ومنضبطة في مواعيدها وأماكنها المخصصة والمجهزة ، وكوادرها المؤهلة ، وحققت لعقود مؤشرات صحية إيجابية عالية أسوة بالدول المتقدمة ، والمفروض الاستفادة من التجارب السيئة والناجحة ، وفي الدول المستقرة والتي تتمتع بنظم صحية قوية وفعالة ومتماسكة من البديهي ان الطب الوقائي جزء أصيل في منظومة الرعاية الصحية الأولية ومصاحب للطب الاستباقي ، ويكون النظام الصحي أكثر استعدادًا واستجابة للتعامل مع الظروف الصحية ، والعالم الآن يعيش عصر الأوبئة والأمراض المعدية ومع سرعة حركة الناس بين الدول والقارات أصبحت الأمراض المعدية والاوبئة تنتشر أسرع وزادتها الصراعات والحروب التي يتلازم معها أنتشار الاوبئة ، والتي تستوجب ديمومة العمل المتكامل ببرامج الطب الوقائي والتحصين بديناميكية مستمرة متطورة ، مسبوقة ومصاحبة ببرامج توعوية وإعلامية مكثفة ، تصل لكل الناس بجميع الوسائط والوسائل ، وخطوط إتصال ساخنة سريعة الاستجابة ، صريحة الردود ، تطمن الناس وتبدد المخاوف ، وتزرع الثقة وتؤكد الحقيقة بأن اللقاحات الآمنة هي الوسيلة الوحيدة للحماية من عدة أمراض صعبة ، وان بالتلقيح الفرد يحمي نفسه وغيره ، وهذا يحتاج لنظام صحي موحد وقوي وفعال ، وكوادر مؤهلة تأهيل عالي ، ومرافق مجهزة وحلقات باردة مؤمنة ومخازن ووسائل نقل مطابقة للمواصفات والمقاييس والمعايير ، ولقاحات متوفرة باستمرار لا يوم ولا ساعة فاقدة ، ومن مصادر عالمية اساسية وأصلية تصنيع ومنشأ وتوريد مباشر منها ولا من غيرها ، ( سلسلة إمداد مغلقة مأمونة ) ..

ونحتاج اهتمام فاكانيتي وحرص المسؤولين على صحة وحياة الناس .

إن اللقاحات نجاة من امراض قاتلة او مسببة لإعاقات للناس صعبة ..

رحل المستوطن والمستعمر وملك الليبين أرضهم وصحتهم …

بلادنا وأهلنا يحتاجون منا الأفضل ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Check Also
Close
Back to top button