مرحى مرحى بالتغيير الديمقراطي
يونس شعبان الفنادي
fenadi@yahoo.com
أولُ جملةٍ فكرية تعلمتها في دروس علم الإجتماع تقول إن (التغيير هو الثابت الوحيد Change is the ONLY constant) وهي تأكيد على أن الفكر الإنساني يتطور ويتصحح ويتغير ويتبدل، وكل القناعات قابلة للتراجع عند ظهور ما يضحد صدقيتها وصحتها أو فاعليتها العملية وذلك لكي تواكب المستجدات والمتغيرات على أرض الواقع. وهذا ما نشهده حالياً يكتسح الحدث السياسي اليومي في ليبيا، ويبّين أن الفكر الذي سعى نظام معمر القذافي بأيديولوجيته المثقوبة فرضه طوال أربعة عقود من الزمن على الليبيين بكل قوته البوليسية والعسكرية الدكتاتورية وهيمنته السلطوية التشريعية والتنفيذية قد انتهى إلى مزبلة التاريخ، وصار ضمن إرث الماضي البغيض في ليبيا اليوم. والدليل على ذلك أن أنصار وفقهاء ذاك الفكر السياسي الأخضر قد تنكروا له ومزقوا كتابه ومسحوا مقولاته من أفكارهم، ونراهم يشاركون الآن بكل ثقلهم في العملية الانتخابية الحديثة سواء بالترشح أو الانتخاب والتي كانوا يعارضونها بأصناف عديدة من ممارسات التهميش والتعزير والعنف والإقصاء بالسجن والتعذيب والقتل ونصب المشانق، وعدم الإعتراف بها إطلاقاً كنظام حديث لتحقيق الديمقراطية سواء النيابية أو الرئاسية، وقد رسخت ممارساتهم القمعية تلك مفاهيم اخلاقية واجتماعية سلبية في حياتنا اليومية تجلت في ظهور خطاب العنف والكراهية والتخوين بأشكله المختلفة بمستويات عالية وانتشار واسع، ولكنهم صاروا اليوم ينخرطون طواعية مع كل الليبيين في بناء المؤسسات الديمقراطية والكيانات الحزبية التي كانوا يجرمونها من خلال أيديولوجيتهم التي تقول (الحزبية إجهاض للديمقراطية) و(من تحزب خان) وغيرها من الشعارات التي اتضح لهم عدم صحتها وفاعليتها في خلق مناخ ديمقراطي يحضن أبناء الوطن بكل أطيافهم، وتنوع أفكارهم ورؤاهم، مع توحد هدفهم الساعي للسمو بالإنسان والارتقاء بالوطن.
وفي الوقت الذي يبدي فيه البعض انزعاجهم من وصول قائمة المرشحين للانتخابات الرئاسية إلى ثمانية وتسعين مترشحاً تقدموا للفوز بالمنصب الأول في الدولة، ويمتعضون من هذا العدد الكبير فإنني أراه جيداً ومحفزاً لإذابة بعبع السلطة، وتفكيك هيلمانها، ووسائل الوصول إلى كرسيها الأثير، الذي ظل مقتصراً على فئة أو نوعية معينة دون غيرها من الواصلين في ليبيا. إنَّ تقدم المواطن البسيط مدنياً أو عسكرياً بصفته مهندساً أو فناناً أو حقوقياً أو مدرساً أو أستاذاً جامعياً أو أديباً شاعراً وكاتباً وإعلان رغبته في تولي الحكم عبر الترشح للانتخابات الرئاسية وفق القوانين النافذة أراه من ناحيتي أمراً صحياً جداً، يعبر عن ممارسته لحق من حقوقه الدستورية التي تخول له هذا الحلم الرئاسي، ويخلصنا من عقدة السلطة برمتها، وهي غاية بلا شك نحتاج إلى سنوات طويلة ومراحل متعددة للوصول إليها، والنظر إلى منصب رئيس الدولة كوظيفة وطنية مثل غيرها من الوظائف الأخرى التي يقدم بها المنتخَب الفائز خدماته للمواطنين جميعاً في ربوع البلاد كافةً، وبانتهاء مدتها القانونية يعود لممارسة حياته الشخصية الطبيعية بكل رضى واستحسان وقبول طوعي.
إنَّ الشعوب والأمم تتعلم الدروس تلو الدروس من مسيرة التاريخ الإنساني، كما أنها تسهم في أحداث هذا التاريخ نفسه بصفحات تتضمن أحداثاُ متباينة ومتنوعة في الاتجاهين السلبي والإيجابي. والليبيون لا يشذون عن هذه القاعدة التتابعية والتراكمية على مدار الزمن، وبالتالي لابد لنا بعد التحرر من قبضة ديكتاتورية عسكرية استبدادية ظلت عقوداً زمنية تتسلط بفاشية تقمع الناس بحذاء العارضات، وسوط الجلاد، وهيمنة تشريعات الباب العالي الفوقية، أن نؤمن بأن هناك مقابلاً لابد من دفعه ثمناً لتحقيق تلك الغايات الأسمى للديمقراطية، فقيم الحرية والديمقراطية لا توهب للشعوب على طبق من ذهب أو فضة، بل ثمنها باهضٌ عبر كفاح الأجيال، كما أنه في العالم أجمع لا توجد ديمقراطية مطلقة، ولا انتخابات نزيهة وصحيحة مئة بالمئة، فكل انتخابات العالم يشوبها الكثير من العيوب التنظيمية والإجرائية، والقصور في قوانينها التشريعية وعملياتها اللوجستية وغيرها، لذلك علينا أن نقبل ما يحدث في بلادنا ونعتبره درساً من دروس تعلم الديمقراطية، ولبنة في بناء وطن عانى الكثير من العبث، سواء من أبناءه أو المحيطين به أو الحالمين بالهيمنة عليه. علينا أن نهتف مرحى مرحى بالتغيير .. مهما شابه الآن من أخطاء سنعمل معاً على تفاديها مستقبلاً للوصول للأفضل والأحسن وليس للكمال.
علينا ضرورة الترحيب بمن عاد الوعي إلى عقولهم، وصارت قناعاتهم تقبل الفكر الأخر، والرأي المخالف، وتحترم التباين الفكري، وتبتعد عن خطاب العنف والكراهية، والعمل مع جميع الأطياف الشعبية على توطين مفاهيم تصالحية جديدة تحضن الجميع، وتزرع الخير والمحبة في أرض الوطن، وتنير فكر الإنسان ودربه إلى السلام والازدهار.