رواية عربية
الضوء العائد
ابراهيم جاد الله سوزان عاشور
-3-
في نفس الفندق الصغير المعروف بإسم فندق “الاسكندرية” ، والمشرعة ابوابه العتيقة علي البحر المتوسط بحار الكون ، كان سامح قد وصل أخر النهار قادما من مدينة بنغازي..
تلك المدينة العصية أو رباية الدايح كما يروق لأولادها تسميتها ، متعبا جدا” ومشوش الذهن ، بينما كان حلقه يختنق بشهقات دمع محتبس ومرير.
لم تكن حبيبته ” عزة ” التي رافقت روحه وخياله طوال الطريق ، هي التوربو الأحادي لكل هذا الشجن المسكوب من عينيه ، فهي تذكر ما كان يقول لها دائما” : انا كاتب يمارس الحزن ممارسته الحياة ، ولا اكتب إلا وحزن قوي يحركني.
..تنهد سامح وهو يحدث نفسه
سئمت من كتابة ألامي ، فكرت بالانتحار لمرات ومرات ، اريد حياة هانئة وسعيت كثيرا” للوصول إليها قبل رحيلي ، أرغب في امراءة تحتضن حزني وتحتويه ، امراءة يشرق الصباح عميقا” في عينيها ، ويغيب الغسق عند مضارب اشتهاءها.
اريدك عزة ، ومرتبك لغيابك عني ، ليتك لا تحضرين بي دائما .. ليتني لم اعرفك.
أتوق لتمثلك أجواء أغنياتك الفيروزية التى كنت ترسليها لى كل صباح عبر هاتفى ، وأنا أبادلك مثلها ، فكلانا تنصهر تجلياتنا بفيروز ، كأن الشغاف واحدة فصار النبض واحدا وتوثق عبر لهفتك ولهفتى.
فيروز الاسطورة ياعزة ، استتناء كوني باذخ ، غواية صوتية للتاريخ والجغرافيا ، بذرة مدهشة استنبتت وسط خراب بيروت المخيف ، وبغداد ودمشق وكل العواصم العربية.
أه ياعزة .. غارق انا في وحدتي ، وفي تاريخي
خرائطي حادة القسمات ومسنونة كنصل سكين مشحوذ ، بلا هوية ، بلا انتماء ، اسبح في غسق حالك ، أغوص ياعزة ودموعي سواقي تجري لتمنعني من الكتابة.
تدهسني
مداخل المطارات والبوابات ، والكلاب البوليسية الشديدة الفتك والاشتمام ، الزنزانات السرية ، الأسلاك الشائكة ، الذات ، المرافيء الامنة والساكنة ، المتاريس والعصي ، الثوابيت المفصلة علي مقاسات الوجع ، دفاتر الشيكات المتأصلة الكعوب ، اخمص البنادق وفنجاين القهوة المجهزة كعدة تعذيب اكسترا ، أه ثم أه ياعزتي.
كان سامح يحادثها كمن يحادث نفسه ، ولما استوي بمقعده في صالة الاستقبال بالفندق الصغير بمدينة مرسي مطروح ، تتابعت الذكريات حوله من كل مكان وزمان.
ذلك المساء البهي بطرابلس وهويحدثها عن نفسه ، وعن روحه المنهكة والتي يطالها حزنه الشفاف كلما لامست روحه وجودها.
..تذكر افاضاته في البوح وهو يهمس لها كحالم
انا الذي تشظت روحه واحلامه ، انا المحنط في يوم كأمسه ، كأيامه الماضية ، انا الغريب وسط اهلي واصدقائي ، أنا المندفع والمنفلت اللسان احيانا” ، انا من لطمته امراءة صومالية احبها يوما فدعاها دون تقدمة تناسب اللحظة للفراش لأنه كان صادقا معها في التعبير عن كينوننته.
انا من يؤمن بأن اللقاء الحميمي مابين ذكر وأنثي صلاة ذروتها السجود اطمئنانا” لإرتقاء النشوة الانسانية ، انا يا انا..
.انا من يقدس الجنس قداسة من أودعه فينا
ويذكر أنها قالت له بيقين:
إن الله لم يودعه فينا ، بل اودعنا نحن داخله .
:وفي تلك اللحظة احتضنها وقال
يالله كم انت رائعة ياعزة ، منذ عامين وانا اسيرك ، وسجين هواك وقلبك ، وضحكت وهو يردد لها : رغم كونك بيضاء وانا اموت في السوداوت.
فهن مثيرات ، تشي رقصاتهن بحسهن العالي باجسادهن ، مبهرات ، مذهلات في لغة الجسد والتضاريس ، أصدقك القول كانت لدي علاقة بإحداهن ، وأحببتها جدا” بعد قراءتي ارثور رامبو، وكنت كثيرا ما اصطحبها معي الي متحفه بعدن.
وضحك سامح من جديد وكأنه يمتلك هذا القدر الهائل من السيطرة علي مشاعره وتوجيهها ، حيث يحقق قدرته علي الاحتفاظ بحب الحياة وعشقها رغم مأسيها التي ترافقه ،وهو يتذكر عباراته الجزلة ردا” علي سؤال لها:
بعض الرجال سيدخلون الجنة دون حساب مكافاة لهم علي نسائهن اللاتي لايصلحن الا للعلف والتسمين؟ ويذكر أنه قهقه عاليا” ( يلعن ميتين ابوهم كرهونا في عيشتنا ).
تذكر سامح محاولته التأكيد لها دائما” بأن مايكتبه لها ومايقوله ، في كل لقاءات بينهما ، ماهو إلا جزء من تجربته الانسانية ، والتي يستعرضها بشكل فكاهي في كتاباته ، حتي لايدخل القاريء معه في مفهوم الاشتهاء الرخيص.
اه ياعزة مربك غيابك كما هو حضورك
استرجاع الذكريات في هذا الفندق الصغير الراقي جعلت سامح يلتقط انفاسه من جديد ، ويعيد استعادة بعض منه له ، ليلم شتات روح تبعثرث وتوزعت ، ويجمع بعض من افكاره .
يوما منذ ربع قرن كان قد نزل بهذا الفندق مقيما لمدة اسبوع ،حين كان مسوؤلا” عن فريق من طلاب الجامعات ، اختارهم مجلس اتحاد طلاب مصر عندما كان نائبا للرئيس ، والذي جاء مصاحبا” لهم بعد ان فرغوا من معسكر شبابي باحدي قري محافظة الدقهلية التي ينتمي بالمولد اليها ،حين اتموا تنفيد مشروعا” خدميا”. صغير في حجمه وكبير في اثره وتأثيره بين اهل القرية لسنوات طويلة ، وظل سامح يتابع مأثره لسنوات اخري بعدها مع بعض من أهلها قامت بينهم الفة حالة وجودهم فترة من الزمن في هذا المعسكر ، وقام النشاط الطلابي حينها بحفر قناة تحيط بمقابر القرية الواقعة في احضان حقولها ، لسحب المياه منها بعد ان تكررت شكاوي السكان من طفح المياه الجوفية علي رفات موتاهم.
كان سامح احد المناصرين لفكرة فلسفة الموت عند “غوتفريد” الألماني ، حيث يؤمن بأنه لا يوجد فناء” مكتملا” للكائنات الحية ، بقدر ماتحدث تحولات لأشكال أخري.
فكر سامح كثيرا” قبل أن يدخل مع سكان القرية في حوار جدلي حول اشكالية الموت من المنحي الفلسفي ، وسرعان ماتراجع وهو يستحضر اشكالية العقل البشري مع فهم فكرة الموت الغامضة اساسا.”
قرر ان يبسط الأمرعليهم ، ويخبرهم بان الحي ابقي من الميت ، وأن الميت علي الرغم من قدسيته المستمدة من قدسية الحياة ذاتها ، لا يضيره حتي وان طفا بما تبقي منه علي طفح مياه سوداء اللون والرائحة .. وان الموت فكرة والحياة فكرة ، وما الموت إلا ديمومة لا نهائية ومتجددة ، في شكل اخر للطاقة تماما” كما هي الحياة .. و الاحتفاء بالمولد والموت هو وهم البدايات والنهايات للعقل البشري المفكر، فالموتي تتحلل اجسادهم وتسافر ذراتهم لتجوب هذا الكون الفسيح كل حسب نياته ، فمنهم من تشكل ذراته ثقوب الكون السوداء – مكانس – ومنهم من يحلق بها نحو الشمش والاجرام ليبعث من جديد في شكل اشعة” لامعة من دفء ونور.
تململ سامح مجددا”، واعتدل في جلسته وسرح بخياله من جديد ، ولكن خياله الحالم جعله يتمني لقاء زينب ، تلك الفتاة الممتلئة الضحوك ، التي شده اعتنائها الخاص والمميز به منذ لحضة تسجيل بياناته بسجل الاقامة هو والفريق المصاحب ، فقد كانت هي المنوطة بالأمر ، وارتبط بها ارتياحا” والفة طوال اسبوع الاقامة والمشروع ، ولكنه سرعان ماعاد لزمنه الحاضر حين وقع بصره علي شاب ملتحي يجلس علي نفس الطاولة التي كانت تجلس زينب عليها في المدخل الايسر لبهو الفندق ، فأدرك كم من السنوات مضت.
صعد سامح الي الطابق الثاني حيث غرفته ، حاملا” حقيبته المحشوة بالهدايا التي ابتاعها من المدينة القديمة بطرابلس ، يسير خلفه عامل الفندق – الاربعيني – الصامت..
فكر سامح مابينه وبين نفسه : هذا الشاب المرابط في زواية الاستقبال بالفندق ، لما هو علي تلك الهيئة ، ربما يطفو هو كذلك فوق بحيرة صرف صحي وهو لايعرف .. وإلا لما هو كذلك وعلي غير عادة موظفي العلاقات العامة وقرناءه.
وصل وارتمي علي السرير المريح بجسده الذي انهكه التعب والذكريات ومدد ساقيه ويديه مرارا وتكررا متقلبا” الي الجهة الأخري من السرير ليمد يده ويتناول هاتفه الجوال الذي استبدل فيه حال وصلوه مدينة السلوم الحدودية شفرة شركة الاتصالات الليبية “ليبيانا” بشريحة الفودفون المصرية ليجري اتصالا” بأسرته وزوجته يعلمهم بوصوله.
ولأن الاتصالات لم تستجب ربما لسوء خدماتها في مدينة العشرين مليون قرر رفع سماعة الهاتف وطلب موظف الاستقبال الشاب الملتحي الذي التقاه في بهو الفندق وطلب منه تحويل مكالمة له علي الخط الارضي بالقاهرة.
..وهو ينتظر التحويل تذكر سامح ماقال لعزة قبل سفره بقليل
تعرفي نفسي في ايه
نفسي اكون عميل امريكاني ، هل تعرفي ان الامريكان هم من ادخلوا ايران الي العراق ، وهل تعرفي انهم يحكمونها معا”.. امريكا ياعزتي لم تخرج أبدا” من العراق..
ولن تخرج من أي عاصمة عربية كانت قد دخلتها.
يتبع