دبابيس
يذهب فريق من الفلاسفة والمفكرين وعلى رأسهم التنويري “جان جاك روسو ” بأن اللغة في نشأتها الأولى ولدت من رحم العواطف ، فيما يرى فريق أخر، أنها قد نشأت من التفكير العقلاني والمنطقي ، ولا يشكل هذا الاختلاف الفلسفي أو الفكري حول نشأتها أي تقديم أو تأخير ، عن حقيقة أنها وسيلة للتخاطب والتواصل بين البشر ، والسبيل الذي يقودهم إلى المعرفة والتعلم ، والجسر الرابط بين ما تكنه العواطف وينتجه العقل وما يصيغه الإنسان في قالب لغوي ليظهر إلى الواقع .
وكون اللغة عنواناً للهوية فمن حق الإنسان أن يفخر بلغته وانتمائه القومي ، مهما كان ترتيبها بين لغات الأمم من حيث الانتشار أو الاستخدام ، ولاشك في أن لغتنا العربية العريقة من أحد اللغات التي تمتاز بالقوة والانتشار الجغرافي في هذا العالم متسع الأطراف ، ما يجعلها مدعاة للفخر والاعتزاز ، إلا أنه من الخطأ الفادح أن يجرنا فخرنا بهويتنا ولغتنا إلى الاستنقاص عبثاً من قيمة بقية لغات الأمم ، أو محاولة النيل منها وتقزيمها ، وذلك باتخاذ اللغة العربية معياراً لقياس قوة أو أهمية اللغات الأخرى ما يضع صاحب المقارنة في خانة الحماقة ، وموضع السخرية .
فأن تحتفي بلغتك التي تزخر بملايين المفردات ، وألاف المعاني ، مبتهجاً بأن للأسد في معاجمها خمسمائة اسم ، وللجمل ألف أخرى فهذا من حقك ، أما أن تحاول واهماً ان تجعل منها اللغة الأهم والأقوى على مستوى العالم ، مستنداً بحكمك على كم مفرداتها وجمال كلماتها وبهاء معانيها ، التي تفوق اللغة الانجليزية أو الفرنسية عدداً ، فهذه دون شك مقارنة سطحية تدل فعلاً على فقر معرفي ، ووهن فكري ، اعتقد بأنه كان السبب الرئيسي لتدني مستوى لغتنا عبر الأزمنة والعصور وتآكلها جزئياً ، بعد أن كانت لغة العلم والمعرفة ، تستقطب عواصمها طلاب العلوم من مشارق الأرض ومغاربها ، حينما كان أصحاب الهمم يطمحون لبلوغ القمم .
إن كان من المهم فعلاً أن نفتخر بلغتنا العربية استناداً للأرقام ، فمن الواجب أن تكون هذه الأرقام لكم المؤلفات والاكتشافات والاختراعات التي وصل إليها أهل هذه اللغة بمجهوداتهم الحثيثة ، في شتى العلوم التطبيقية الفعالة التي تحتاجها البشرية في ظل هذا التطور الرهيب و المتسارع ، وبعيداً عن المزايدات التي لن تتعدى فحواها كونها جزء من التاريخ غير المسند بالدلائل القاطعة ، فلن ينفعنا الجدل إن كانت اللغة العربية لغة أهل الجنة أم أهل النار ، وهل تحدث بها أدم أم اسماعيل وكم كان طول أشهر المعلقات .
لن تدخل أي من هذه القصص في تركيبات الأدوية كما لن يكون لقسورة مكان في معادلات الكيمياء النووية ، ولا حتى في صناعة وقود السيارات الذي ما أن تأخرت في توريده بواخر أصحاب اللغات الضعيفة ، صرنا نعد طوابير السيارات المصطفة أمام محطات الوقود لننسى حينها كم “للضرغام” اسم و هوية ، لنثبت كل يوم أن كثرة مفرداتنا اللغوية ، جاءت فقط لأننا ظاهرة صوتية ، نُجيد الكلام ونتفنن في الخطب الحماسية والقصائد الهجائية ، و نعيش على ذكرى أمجاد الأجداد التاريخية .