fenadi@yahoo.com
صدر مؤخراً عن مكتبة الكون في القاهرة ديوان (صَدِيقَةُ الشَّيْطَانِ) للشاعرة الشابة المتميزة هناء المريض، وكنتُ قد تشرفتُ بمطالعة مخطوط الديوان قبل صدوره، واقتبستُ منه بعض نصوصه الشعرية وضمنتها ورقتي المعنونة (بعض ملامح شعر الشباب في ليبيا) التي شاركتُ بها وألقيتُها خلال فعاليات دورة اليوبيل الفضي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب لسنة 2019.
والآن إثر ظهور (صديقة الشيطان) يسرني بعد تقديم التهاني والتبريكات الثنائية لمكتبة الكون وصاحبها الأستاذ فتحي بن عيسى، وللشاعرة هناء المريض ولمحبي الشعر كافةً، نشر هذه الجزئية القصيرة التي وردت بورقتي.
(تمثل نصوص الشاعرة هناء المريض إضافة ثرية للمشهد الشعري الليبي لما تقدمه من جماليات لغوية تستلهم من عبق النص القرآني والتاريخي العديد من الأفكار والعبارات وتسقطها على الراهن بلغة تنساب كالزلال وهي تنسج عناصر صورتها الشعرية بحرفية متقنة. الشاعرة تملك القدرة على الإمساك بخيوط الفكرة بكل براعة وهو ما يبعث جاذبية وتعلقاً في الاستمتاع بالإيقاع المدوي والثراء اللغوي وينهل من فيوض الشعر المدهش في معظم نصوصها.
صَبِيَّةُ الشَّمسْ
صَدِيقَةُ الشَّيْطَانْ
فَإِنْ كُنْتَ تَسْكُنُ العَتَمَةَ
وَلَسْتَ تَحْضُرُ
زَوَاجَ السَّمَاءِ وَالبَحْرِ ..
فَاتَكَ بِذَلِكَ مِيلاَدُ الأُفُقْ
لَمْ تَسْمَعْ يَوْماً
مُغَازَلَةِ الرِّيحِ القَمْحَ ..
أَهَازِيجِ الحَفِيفِ ..
فَامْضِي ..
أَغْضُضْ طَرَفَكَ عَنِّي
وَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الضَّوْءِ
وَلاَ تَقْرَأَنِي.
وتفتح لنا هناء المريض كتاب سيرتها لنتعرف من صفحاته على شخصيتها المبدعة الشاعرة التي نجد فيها الكثير من القوة والمهابة تجسدها المفردات والعبارات المكللة بكل ما يمت للاعتزاز والفخر والثقة والاختيار. وقد شبهت نفسها تارةً بالصمت المطبق، وبالكافرة بالبدايات أياً كان نوعها، وتارة أخرى بأنها ليست مثل النساء الأخريات لأن قلبها يظل مشرعاً مانحاً كل الرفاق حرية الولوج إلى عوالمه واستيطانه أو مغادرته، مؤكدة أنها لا تستجدي علاقة ما ولا تحيك الدسائس لأجلها، بل تنشد من يدرك قيمتها ويختارها ويأتي إليها طواعية:
أَنَا الصَّمْتُ يَا رَفِيقِي ..
الوَاقِف عِنْدَ اللاَّمَعْقُولِ إِلَى أَنْ يُعْقَلْ.
أَنَا الكَافِرَةُ بِالبِّدَايَاتِ
وَالاِعْتِرَافُ الَّذِي لاَ تَفْتَأُ تُنْكِرُهُ
وَنِهَايَةُ كُلِّ الطُّرُقِ المُؤْدِيَّةِ إِلَيْكْ
أَنَا هِيَ الَّتِي لَيْسَتْ كَبَاقِي النِّسَاءِ
أَبْوَابِي مُشْرَعَةٌ، لِمَنْ شَاءَ البَّقَاءَ،
وَالرَّحِيلَ أَيْضاً
لاَ أَنْصِبُ فِخَاخاً
وَلاَ أُرِيدُكَ أَنْ تَقَعَ بِيِّ
أُرِيدُكَ مُدْرِكاً .. آتِياً صَوْبِي بِعَيْنَيِّنِ
مَفْتُوحَتَيْنِ .. كَمُتَرَصِّدِ هَدَفْ
أما حين تنقل لنا مشاعر تعلقها تجاه عناصر بيئتها وتستحضر بشكل خاص المكان المحبوب أو الوطن المعشوق ممثلاً في مدينتها طرابلس، فإن النص يعزف سيمفونية عشق لا تتأسس على جمالية المفردة اللغوية فحسب بل تتعاضد قوة الإيقاع مع الأحاسيس الوطنية الدافئة المنبعثة من ثنايا الصورة الشعرية العامة التي تطرزها شاعرتنا لمدينتها المحبوبة “عروس البحر” التي منحتها هذا العنوان وصفاً ومحبةً واعتزازاً، فيتهاطل نصها بكل حنو وزهو يروي القلوب العطشى لمحبة وطن لا تتوقف أو تنفصل عراها على الدوام:
سَلِمْتِ طَرَابُلْس مِنْ عَبَثٍ نَزِقْ
فَمَا يُولَدُ صُبْحٌ إِلاَّ مِنْ رَحِمِ الْغَسَقْ
عُودِي .. كَمَا دَائِماً عَرُوساً
تَلْتَحِفُ الأَلَقْ
يُدَاعِبُ الفَرَحُ وَجْنَتَيْهَا .. بِخَجَلٍ
أُرْجُوَانِيّ الشَّفَقْ
كَمَا دَاعَبَتْ طُفُولَتِي نُسُومَتَكِ
بِطَائِرَةٍ مِنْ وَرَقْ
تتمظهر ملامح نصوص الشاعرة هناء المريض في كل قصائدها التي تتأسس على عمق وجمالية اللغة وصوتها الإيقاعي الرنان الذي يضفي عليها الكثير من الجاذبية ويمنحها حضوراً واثقاً سواء في لحظات الإلقاء أو أثناء الإبحار في دهاليز النص المكتوب، المكتظ بالوجدانيات والوطن وزرع فيوض المحبة والجمال كافة في فضاء الشعر.