صورة وتعليق ( 11 )
سالم الوخي
المسار الفكري للإمام أبي حامد الغزالي يشرع الأبواب لتسليط الضوء علي الإشكاليات السائدة بعصره ، والهموم الثقافية المستقرة به …
العلاقة الملتبسة عروبيا بين المثقف والسلطة ، إحدي هذه الإشكاليات والهموم ، وقبل الإطلالة الوجيزة عليها ، يمكن ملاحظة أن تعدد الآراء والاجتهادات الفكرية في أي قضية سجالية ، تحت رايات الإسلام القويم ولافتات حرية التعبير ، كان وسيظل شأنا نابضا بالحياة ، وإغناء للمضمون والجوهر الروحي للدين الإسلامي ، ومن أوكد البراهين علي سريان دماء إرادة التطور في الجسد الإسلامي ..
عند تعريف المثقف وهو مفهوم حداثي ، أقول بأنه الإنسان القادر بالتراكم المعرفي لديه على التفكير النقدي وإدراك التحديات التي تواجه محيطه ، في تناغم هرموني مع مواقفه المستقلة في القضايا الحياتية.
أما السلطة ، أراها موطنا وبيئة للإشكالية العربية المزمنة ، أو طبائع الإستبداد وفق قول عبد الرحمن الكواكبي ، حاضنة لعلاقة لا تعاقدية بين طرفين ، يملك أحدهما القدرة علي توجيه وإخضاع الطرف الآخر ، اقصد الدولة وأفراد المجتمع .
ونبقي داخل فضاءات التراث الإسلامي ، وبغض النظر عن الإصطفافات والنزعات الفكرية المتنوّعة لمثقفي وقادة الرأي العام ، وقبل قرون من بروز نظرية المثقف العضوي الغرامشية الشهيرة ( 1891 – 1937 ) ، يرصد القارئ لبعض صفحات التراث الإسلامي ، العديد من الصور والأسماء والقضايا المتصدرة للأزمة المحتدمة بين المثقف والسلطة .
وبالتركيز علي الصدامات المرتدية ثيابا سياسية ، في منحي يتعلق بالسلطات السياسية دون باقي السلطات من دينية ومجتمعية ، تقابلنا تجاذبات بين المثقف والسلطة منذ العصر الأموي ..
أشهرها ، ما ذكرته مدونات التاريخ عن مواقف أئمة المذاهب الإسلامية ، بداية بالإمام أبي حنيفة ( 699 – 767 م ) اثر مناوئته السلطة ورفضه تولي القضاء ، وما أشيع عنه بمشاركته في الثورة على المنصور . وكذلك موقف الإمام مالك بن أنس ( 711 – 795 م ) ضد العباسيين ، وتم سجنه وتعذيبه بسببها حتى انخلعت كتفه.
وكذلك موقف الإمام أحمد بن حنبل ( 780-855 م . ) ، ومعارضته آراء السلطة التي كانت امتحانا له ولموقفه المناهض بشدة ، للقول بـ( خلق القرآن ) أيام المأمون والمعتصم والواثق ومحنة أشبه بمحكمة تفتيش ، تمتحن فيها العقائد والآراء والضمائر ، ويعذب عليها المخالفون القائلون بأن القرآن غير مخلوق . كما نستحضر موقف الإمام محمد إدريس الشافعي ( 767 – 820 م ) وما تردد من دعم للثورة التي كان يعد لها موسى الكاظم .
ونلاحظ أن القمع الذي تعرّض له أئمة المذاهب الإسلامية الأربعة ، نزعة باطشة شبه دائمة تحضن سيرورة ومآلات الفكر العربي ، مجسدة لحظات تاريخية اقصائية عنفية تطحن وتسحق حرية الفكر أحد شروط النهوض ، مندفعة دون مراجعات نقدية ذاتية ، سالكة مسارا عكس حركة التاريخ ، في إزاحة – باهظة التكاليف مسدودة الآفاق الحضارية – للتقدمي والإنساني .
الكتب المختصة بالفكر الإسلامي قلما تخلو من الحديث عن مثقف إسلامي ، شغل حيّزا واسعا في صفحات تاريخ الفكر الإسلامي ، تباينت الآراء حوله ، كان في علاقة تنافر مع السلطة ، معتزلي ، متسائل في الفلسفة ، مدنيّ الهوية ، عروبي الإنتماء ، ظمآن الي الكونية الطليقة للعالم والمجتمع والإنسان ، مناديا بفصل السياسة عن الدين في وقت مبكر من عصر الحضارة الإسلامية .
أتحدث عن فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة ، أبي حيان التوحيدي ( 922 -1023 م . ) صاحب كتب ( مثالب الوزيرين ) و( المقابسات ) و ( الإمتاع والمؤانسة ) و ( البصائر والذخائر) ، وغيرها من مؤلفات عابرة للأزمنة ، شغلت الدنيا والناس في عصره وبعد عصره . بلغ به الصدام مع السلطة وشدة غيظه منها ، والفاقة والخصاصة واليأس ، بأن أحرق كتبه ، وأهداها طعاما ووقودا للنيران …