صورة وتعليق ( 16 ) –
سالم الوخي –
كثيرا ما تتوالد عن اللوحات القلمية والتعليقات السابقة المعروضة باختصار علي صفحات هذه الصحيفة الغراء ، سلسلة أو سلاسل أفكار وأحداث ، ربما يجمعها موضوع وخيط فكري أو زمني واحد تغري بالإضافة والإفاضة والتبيين ، ولا يملك القلم إلا الاستجابة لسرد المزيد من التفاصيل ، واستنطاق بعض الجوانب ، أو الغوص في الأعماق ، لكي تكتمل الصورة وتضاء زواياها وأركانها رغم مقص الاختصار الذي يحتّمه العمل الصحفي أحيانا .
ويحضرني ، قول للزعيم المصري سعد زغلول ( 1857 – 1927 ) حول التلخيص في الكتابة ، خلال تدوينه خطابا لصديق له ، أشار فيه الي أنه يتطلب وقتا ، وقال فيه : ( أعذرني للإطالة فليس لديّ وقت للاختصار ) ، إلاّ أنني أري أن التركيز والجهد الذهني مطلبان هامان للإيجاز .
بالعدد الماضي تطرقت لملامح الخلفيات الاجتماعية والتاريخية المؤسسة لنزعة التمركز حول الذات الأوروبية المعادية للشرق الإسلامي التي تتضمن إفرازات الفكر التمييزي الأوروبي ، إضافة إلى ما أعلنه المستشرق الفرنسي أرنست رينان ( 1823 – 1892 ) بمحاضرة بجامعة السوربون أثارت أصداء متميّزة …
رينان رأي أن الفلسفة العربية ، ليست إلاّ الفلسفة اليونانية مكتوبة بأحرف عربية نافيا عن العقل العربي التعاطي الإيجابي مع الفلسفة ، وسبق لرينان وقبل ظهور النازية وعنصريتها ، أن أضاف ، إلى التقسيم البشري التفاضلي علي أساس الجنس الأعلى ” الآري ” والأدنى ” السامي ” ، تصنيفا تمييزيا مماثلا علي أساس لغوي من حيث المرتبة الحضارية والقابليات العقلية ، في زعم ” بأن لغات الجنس الآري أفضل من لغات الجنس السامي ” …
عدد من الإصلاحيين الإسلاميين من بينهم جمال الدين الأفغاني ( 1838 – 1897) لم يصمتوا ، تصدّوا للرد علي رينان ، التفاصيل مدوّنة بالكتب المؤرخة للفكر الإسلامي …
كذلك من تداعيات الحروب الصليبية ولادة ظاهرتين بالتاريخ الثقافي العربي ، الأولي نظرية المؤامرة ، المرتكزة علي سيادة خطاب يؤكد بأن الآخر الغربي يضمر ويمارس التآمر على الذات والكيانات العربية والإسلامية ، يصاحب الخطاب أصداء تتجنب إعمال وتوظيف العقل وتحجر علي تفعيل أدواته ، وتتغذي علي تمجيد الذات ، وتبتعد عن نقد وتحليل الظاهرة بشكل علمي وتستخدمها كمشجب لتعليق أخطاء الذات عليها .
وبذلك ، يشهد الوعي الجمعي العربي والإسلامي توطين وتكثيف نتائج تقييمه ووصفه حزمة من الأحداث الراهنة والماضية ، بأنها صناعة تآمرية غربية وشقوق جديدة في جدار العلاقات مع الغرب …
وعلي مستوي النخبة عربيا وإسلاميا ، يلاحظ أن التيارات الموالية للخطاب القومي واليساري والديني المتباينة التوجهات ، تتفق علي صدقية نظرية المؤامرة ، المتجددة تمظهراتها والمتناثرة شظاياها داخل المشهد العربي النمطي التعميمي ، مرفوقة أحيانا بإيقاع القذف صوب المجهول لتساؤلات العقل النقدي ، ربما انعكاس لأداء آلية التلقي والاستجابة ، ومرآة لطبيعة الذات العربية ونوعية ومستوي فهمها ، وقراءتها للواقع والتاريخ وإدراك سيرورتهما ، وتحديد موقعها منهما ..
لا أنفي وجود مساحات وأطوار للمؤامرة حسب قوانين الصراع الدولية ومعارك الاستحواذ والنفوذ المتفاقمة ، وأدعو لانتهاج الموضوعية والتعمق في دراسة الممارسات المنضوية تحت بند نظرية المؤامرة ، وكذلك تحليل الذهنية العربية ، وفحص المنطلقات التفسيرية المنتجة لوثوقية ويقين مطلق بهذه النظرية ، سهل ومريح للذات التبجيلية والمضاد للقلق والجهد الفكري ، والقامع لعلامات الاستفهام وأدوات المراجعة ..
والظاهرة الثانية ، سبق وأن أشرت إليها ، وهي الاستشراق ، أو أدمغة الحملات الصليبية الحديثة ، أو شياطين الغزو الثقافي للعالم الإسلامي ، وفق وصف المناهضين للاستشراق ..
ونقل عن كتاب ” الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم ” ، للدكتور مصطفى السباعي ، القول ” أن آراء العلماء والباحثين تتباين بشأن تحديد البدايات التاريخية لتلك الدراسات ، وتتجه أكثر الآراء إلى تحديد فترة زمنية ، وليس إلى تحديد سنة بعينها لبداية الاستشراق ” ، موضحا بأن بعض الرهبان قصدوا الأندلس الإسلامية إبان عظمتها ، وتثقفوا بمدارسها ، وترجموا القرآن الكريم والكتب العربية إلى لغاتهم ، وتتلمذوا على علماء المسلمين بمختلف العلوم .
****************