رموز ونجوم في سجل العمر (15)
محمود السوكني
مضى عام مذ وطئت قدماي الأراضي اليوغسلافيّة التي لاتتجاوز لغتها حدود وطنها ولا تحتاج لتعلمها حتى تأمن شر أبنائها فلديهم مايكفيهم من هموم الدنيا وتعقيداتها التي تلهيهم عن الإنتباه لوجودك أصلاً ، بلد مترامي الأطراف متعدد المذاهب والملل يعاني غالبية سكانه من ضيق ذات اليد وكفاف العيش رغم الثروات الطبيعية التي تزخر بها بلادهم حتى أنهم يغمرون العاصمة بالمياة المتدفقة من الخراطيم المحمولة التي تجرها العربات تجوب الشوارع كل ليلة لتنظيفها وهو دليل على المخزون المائي الكبير الذي يتغذى من الأمطار الغزيرة التي لاتكاد تفارق سماء مدن يوغسلافيا وغالباً ما تتحول الى ثلوج تغطي المركبات وتكسو وجوه البشر وتحيل الأراضي الخضراء إلى صفحات ناصعة البياض ويشتد معها الصقيع الذي ينفذ عبر مسام الجسد الى العظم الذي لم يألف مثل هذا البرد القارس ولا يقدر على تحمله .
لم يكن هناك مايغري على الإستمرار في العمل في يوغسلافيا تحديداً أو هكذا تصورت ، فلغة البلد لن تفيدني في إكتساب لغة جديدة استفيد من إجادتها في القادم من سنين العمر اللهم إلّا إذا قررت جديّاً التخصص في شئوون هذا البلد وتاريخه وهو أمر لا أجده مشجعاً على الإطلاق ليس لعدم أهمية ( يوغسلافيا ) ولكن لوجود دول أخرى أكثر تأثيراً منها وأكثر جذباً وإغراءً للتواجد على أرضها والإستفادة من تاريخها وتعلم لغتها والإحتكاك بسكانها الذين سيكونون في إعتقادي أكثر تحضراً وإنفتاحاً على الآخر من دولة منغلقة على نفسها تحصي أنفاس الغرباء وتتعقب خطواتهم وتنشغل بخصوصياتهم .
كان العمل في سفارتنا في بلغراد في تلك الفترة ممتعاً حد الدهشة ليس لطبيعته ولا لمهامه وليس بالطبع للبلد المتواجد فيه ولكن للصحبة التي تحققت لي بفضل تواجد مجموعة خيّرة من الزملاء الأجلّاء الذين كانوا الملاذ الآمن في ذاك الزمهرير بدفء مشاعرهم وطيب خصالهم وشدّة محبتهم حتى أنهم يكادوا لايفارقونني وأنا الشاب الأعزب الذي ترك الأهل وراءه إلى بلاد يجهل لغتها وطباع أهلها في أول تجربة للإغتراب عن الوطن ، لقد كنت محظوظاٍ بالعمل تحت رئاسة السياسي المحنّك والدبلوماسي المخضرم السفير ” إبراهيم الطاهر البشاري ” الذي عمل سفيراً في دولة (تشاد) في أخطر الفترات وأشدها تعقيداً بين الدولتين وهو الذي رُشِح بعد ذلك سفيراً لنا في (نيجيريا) إلّا أنه رفض التكليف ولم يذهب إلى هناك رغم أن إختياره لم يكن ضمن حركة تنقلات عاديّة للسفراء بل كان بتوجيه غير قابل للنقاش ورغم ذلك فقد رفض بشدة تنفيذ الأمر (!) الطريف أن سبب الرفض –كما أفضى لي بذلك- دواعي أمنيّة محضة ، فأنت في (لاغوس) عاصمة (نيجيريا) لاتستطيع أن تأمن على نفسك ولا على عائلتك من سرّاقها وقُطّاع طرقها الذين قد يفاجئونك في أي لحظة ، وحتى يؤكد لي وجهة نظره استدل بما وقع ذات حادثة مشهورة للسفير البريطاني الذي اوقفت مجموعة مجهولة سيارته وارغمته على النزول منها وجردته من بدلته وحذاءه واجبرته على السير حافياً بعد أن لاذت بالفرار بسيارته (الروليز رايس) إلى حيث لايعلم !! هذا ماحدث لسفير (بريطانيا العظمى) الدولة التي لاتغرب عنها الشمس كما يشاع فما بالك بسفير دولة من دول العالم الثالث كما توصف بلداننا ! . .