قصة نفوسية لزالت عادة سنوية
يوم من كل سنة… مدينة ليبية تنعزل عن العالم وتقنياته
غرب العاصمة طرابلس بمسافة 260 كليومتر، وفي إحدى قمم جبل نفوسة الشامخة ، مدينة يمتد تاريخها الي قديم الزمان.
فرسطاء، هذه المدينة والتي لايتعدي سكانها الثلاثة ألاف نسمة، تزخر بالعديد من المعالم الأثرية المتنوعة، التي تُعبر عن تعاقب الاحداث التاريخية فيها، وتنوعها الحضاري، رغم وحدة سكان المنطقة ديمغرافيا، وانتمائهم لاحد قبائل نفوسة، سكان هذه المنطقة من قديم الزمان، وقد سميت فرسطاء بهذا الإسم ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻈﻬﺮ ﻟﻠﻨﺎﻇﺮ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺍﻟﺸﺮﻗﻴﺔ ﻟﻠﺠﺒﻞ ﺍﻟﻤﻘﺎﺑﻞ ﻟﻬﺎ ﻭﺍﺟﻬﺘﻴﻦ، وهي كلمة من أصول وندالية.
فرسطاء إحدى مدن بلدية كاباو، فيها مجموعة من المواقع الأثرية و المساجد القديمة كمسجد أبو يحي ، ومسجد تغليس، وأيضا كنيسة الحواريين، التي يعود تاريخها لما قبل دخول الإسلام الي المنطقة، وتم تحويلها إلى مسجد.
تواتره
لكل مدينة وقبيلة عادات وتقاليد، تتناقل بينها من جيل الي اخر، قد يندثر بعضها، أو يتغير من بعض ملاحمها القليل، وهذا هو الحال في فرسطاء، فمن بين مايمز هذه المدينة عن باقي مدن الجبل، هو يوم (التواتره) والذي يعني باللغة الأمازيغية الفاتحة ، حيث في هذا اليوم تخرج المدينة عن بكرة ابيها من الصباح الباكر، الي منطقة في احد ضواحيها، تبعد حوالي كليومتر، تسمي منطقة (الزملة) وفيها تجتمع كل قبائل وعائلات المدينة ،وكل قبيلة لها مكانها المخصص يسمى( تحقفة) وهو عبارة عن بيت حفر، تجتمع فيه نساء وأطفال كل قبيلة على حدى ، أما الرجال فإنهم يجتمعون في الجامع ( ايحوارين ) الموجود في منطقة تسوراف، وهو أحد أقدم مساجد المدينة.
وعادة مايكون هذا في ساعات الصباح، في منظر يعبر على الترابط الكبير بين أبناء هذه المدينة، وحتى القانطين خارجها في هذا اليوم هو يوم الإلتقاء مع باقي أبناء العائلة.
القصة التاريخية
تعود القصة الي قديم الزمان، حيث إلتقينا بالشيخ أحمد جونطو، وهو أحد شيوخ المدينة، كما أنه باحث ومؤرخ ومهتم بالشؤون الثقافية والتاريخية، وقال لنا ” حين أصاب المدينة قحط وجفاف وشح في الأمطار، فقرر سكانها مغادرتها، والترحال إلي مكان أخر، بحثا عن لقمة العيش، خصوصا أن الطابع الزراعي هو الغالب علي أهل المدينة، وكان للمدينة شيخ يدعي الشيخ سليمان، أو كما كان يطلق عليه أهل المدينة (دادئ سليمان)، ومكان خلوته موجود إلي يومنا هذا أسفل المدينة القديمة، وفي أثناء خلوته أخبره احدهم بالوضع الذي تمر به المدينة، وأن سكانها قرروا الرحيل عنها، وطلب منهم ان يغادرو معهم، كي لايبقو وحدهم في المدينة، فطلب الشيخ منه طلبا غريبا، ان يحضر من الكل إناء طعام، ويملأه بالماء، وأن يكون هذا الماء من بئر في المدينة أسمه (تلايتمم)، وهو أحد أبار المدينة الجوفية والموجود الي يومنا هذا، وأن يضعوا في كل الأواني غطاء يغطي هذا الماء، وأجتمع بيهم بعد أن فعلوا كل ماطلب منهم، وطلب منهم قراءة الفاتحة، والدعاء لله عز وجل، وبعد ذلك طلب من كل قبيلة ان تاخد إناءها، وغادوا المكان المعروف حاليا (تسوراف إن تواتره)، وقطعوا حوالي مسافة نصف كيلومتر، ووصلو لمنطقة اسمها (الزملة)، فبدأت تتساقط الامطار، ومن هذا أهل المدينة اخدوا من هذا اليوم مناسبة إجتماعية كل سنة، ليست تخاريفا ولا عادات جاهلية، بل ذكري يعاودونا بالدعاء وقراءة القران، وحمد الله عز وجل، بالنعمة التي انعم بها الاجداد”.
وجبة الغذاء
بعد صلاة الظهر في جامع “ايحوارين”، ينتقل الرجال الي ساحة التواتره، لتناول وجبة الغداء، والتي يكون إعدادها مشتركا بين كل قبائل المدينة،حيث لكل قبيلة وسمها في اواني الوجبة التي أعدتها، وهي عبارة عن البازين، كما تقدم في هذه اليوم اكلات التمر بالبسيسة، والحلويات، وبعد الانتهاء من وجبة الغداء، وتناول الشاي، تترك جميع الاواني في مكانها، مغطاة نصفها فقط ، ويقرأ الجميع سورة الفاتحة، وماتيسر من السور القصار في القران، وبعض الأدعية بالخير للحال والعباد، والحمد بالنعمة.
مناسبة إجتماعية خالصة
علي جونطو رئيس جمعية منظمة الفرسطائي أخبرنا عن هذا الموضوع قائلا “هو إحتفال بما تعنيه الكلمة، فمشهد ان تري مدينة بأسرها، وهي مجتمعة في مكان واحد، بعدا عن الإختلاط، والأمور التي ترفضها الشريعة الإسلامية، وعادات المنطقة، وتربيتها المحافظة، فبعد وجبة الغداء، ملامح هذا الإحتفال تبدو بالظهور في أوجها، قديما كانت مسابقات الالعاب الشعبية هي تزين هذا اليوم، وأيضا الإجتماعات الخاصة بالمدينة وماشكلها، تطفي للأمر أكثر أهمية، أما النساء فبصنع الحلوي والغناء هكذا هي فترة الظهيرة، بعد الإنتهاء من عناء وجبة الغذاء، وقبل البدء في وجبة العشاء”.
نهاية اليوم
بعد صلاة المغرب، يلتقي الجميع، الرجال والاطفال في (تسورافت)، لتناول وجبة العشاء، والتي تكون أيضا من البازين، وبعدها قراءة الفاتحة والدعاء، وكأن مشهد الأمس يتكرر، وبنفس حذافير قصة الشيخ سليمان مع اهل المدينة بالأمس البعيد، كل شئ يعيد نفسه، وبعد الإنتهاء من الدعاء، يغادر الجميع المكان، في مشهد يعبر عن البعد الإجتماعي الكبير لهذه المدينة، علي بعد مسافة حوالي500 متر، حيث جامع تغليس، الفاتحة والدعاء مجددا، والشكر والحمد لله، وبعدها يغادر الجميع إلي منازلهم.