كتاب الرائ

Embrasse Cerise قصتي في المدارس الفرنسية والليبية

جلال عثمان

لا أتذكر أول يوم دخلت فيه للجامعة، ولكنني أتذكر جيدًا أول يوم دخلت فيه للسنة الابتدائية الأولى. كان ذلك في المدرسة الفرنسية بمنطقة قرجي في العاصمة طرابلس، وقد درست قبلها أكثر من عامين في المرحلة التمهيدية بجنيف.

رحبت بنا معلمة الفصل، وأغرقتنا بالقُبل، ثم اتجهت إلى السبورة وكتبت:

‏Embrasse Cerise

كانت Cerise تلميذة فرنسية يعمل والدها في السلك الدبلوماسي، كحال جل التلاميذ، واسمها يعني الكرز.

قام تلميذ فرنسي وقبّل Cerise وكون الفرنسية لغته الأم، فقد استطاع فهم الجملة.

تحدثت إلينا المعلمة قليلًا ثم قامت بفتح النافذة وكتبت:

‏Fermez la fenêtre

أقفل النافدة

كنت الوحيد الذي قام وأغلقها، لا لأنني قد فهمت الجملة، بل لأنني استطعت من السياق أن أفهم استراتيجية المعلمة في طرح الأسئلة، واستطعت أن أكون منافسًا لعدد من التلاميذ الفرنسيين، والبلجيكيين، والأفارقة الفرنكفونيين، بل وتفوقت عليهم.

يقول بعض إخوتنا في مصر، أنا أنجح بالفهلوة، يعني استخدمت مواهبي أكثر مما استخدم المعلومات.

وفي أمريكا يسمونه Talent أي الموهبة وليس الحفظ.

السنوات التي درستها في جنيف، رغم أنها كانت في المرحلة التمهيدية، كان لها تأثير كبير على تكويني، وتفكيري، وتعاملي مع البيئة والمحيط.

وعندما انتقلت للدراسة في المدرسة الليبية، عند مغادرتنا لطرابلس للعيش في مدينة الزاوية، صدمت بواقع مؤلم، كوني كنت أدرس في مدرسة فرنسية، وباللغة الفرنسية، وفي بيئة مفعمة بالإيجابية، والسعادة، والسلام ..

وفي أول يوم رأيت أستاذ الرياضيات يضرب الطلبة على رؤوسهم برأسه. ما يعرف عندنا ب Testa

تصوروا تلاميذ أعمارهم ما بين تسع إلى وعشر سنوات، يتلقون ضربات رأسية من معلمهم على جبهاتهم، وكنت أنا أحدهم!!

تلقيت الضربة الرأسية من الأستاذ “ميلود” هذا هو اسمه الأول، وكان الألم النفسي أشد كثيرًا مما واجهته من الألم العضوي.

نصحني شريكي في المقعد، ألا أظهر أي امتعاض، لأن ذلك سيجعل الشيخ ميلود أكثر شراسة، (في الزاوية كانوا يطلقون على المعلم اسم الشيخ).

وفي نهاية الحصة طلب الشيخ ميلود من الطالبات الحضور بسراويل تحت الزي المدرسي، في اليوم الموالي، لأنه قد حدد ذلك اليوم ليكون مراجعة عامة، ومن يفشل في الإجابة سيعاقب بالفلقة.

كان عمري 10 سنوات ودرست حتى ذلك العمر في المدارس الفرنسية، ولا أعرف ما هي الفلقة، سألت شريكي في المقعد (فهيم) فأخبرني أنها عصا طويلة، يلتف حولها حبل قصير، تستخدم لضرب التلاميذ.

ومن سوء الحظ كنت أحد الذين نالت منهم في اليوم الموالي.

جميع المضروبين عادوا إلى مقاعدهم مشيًا، إلا أنا عدت على أربع.

لا يمكن أن أنسى ذلك اليوم، ولا اليوم الذي سبقه ولا جميع أيام البؤس التي عشتها في المدارس الليبية.

في الإعدادية، تعرضت للجلد بوحشية من الشيخ “سالم” فقط لأنني كنت أدندن قبل دخوله للفصل، وهو معروف باختلاقه للأعذار حتى تمر الحصة دون أن يشرح فيها حرفًا.

كنا في ذات الفصل أنا وصديقي عبد الباسط القانقا، وهو شاهد على ذلك.

وعندما أيقنت أن الشيخ سالم لن يتوقف عن ضربي حتى تنتهي الحصة، هربت من الفصل، ومن المدرسة، وتركت حقيبتي التي أحضرها لي عبد الباسط، وأخبرت والدتي بما حدث وقلت لها لن أذهب إلى المدرسة مرة أخرى.

ولكن في اليوم الموالي، أيقظتني والدتي وترجتني أن أذهب للمدرسة، وكان لها ما أرادت.

في السنة الأولى من المرحلة الثانوية، تم نقلنا إلى معسكر الزاوية، وعوقبنا بالحلاقة “صفر” ثم أعدنا إلى المدرسة، حيث تم سجننا في سجن لا تتوفر فيه سوى بعض الأفرشة البائسة، والسبب اتهامنا بالعبث بجدار الفصل.

في السنة الثالثة، وفي اليوم الأخير من أيام المشروع العسكري بمعسكر الزاوية، نقلنا في حافلات إلى معسكر الفلاح، ووزعوا علينا جميع المهام العسكرية باستثناء الأسلحة، وعرفنا حينها أنه سيتم نقلنا إلى منطقة أوزو المتنازع عليها مع دولة تشاد، كقوات مساندة للجيش الليبي.

بتنا ليلة كاملة في العراء، وأولياء أمورنا لا يعلمون شيئًا عن مصائرنا، وتسربت إليهم معلومات عن ترحيلنا للقتال في أوزو.

في الصباح تمكنت من الهرب، بعد أن تسلقت الحائط الشمالي لسور المعسكر، معتمدًا على كابل لخزان المياه، كان يلامس السور، وحينها كنت لاعبًا بفريق الأولمبي لكرة السلة، ولولا لياقتي البدنية، لبقيت مع من بقى.

في المساء تم إطلاق سراح طلبة مدرسة الزاوية الثانوية، والإبقاء على طلبة مدرسة علي سيالة من طرابلس، وأخذوا إلى أوزو، ومنهم المبروك الزوي، الذي ترشح لمنصب رئيس الوزراء في العام 2013، والمبروك أسرته القوات التشادية، ونقل مع الأسرى الليبيين إلى أمريكا.

ما نراه اليوم من عنف، سببه مدرس متوحش، ومدرسة بائسة، وأكاد أجزم أن بلادي لن ترى السلام، أو الاستقرار، طالما ظلت مدارسنا كما هي فضاءات للعنف، والتطرف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button